x قد يعجبك أيضا

الموت.. ذلك الغريب الذى يمر بنا ولا نفهمه

الأحد 7 ديسمبر 2025 - 6:35 م

«إنما الخياطون والخطاطون ينسجون من أعماق عيونهم».

لا نعرف الموت رغم كثرته فى كل زوايا حياتنا، نسمع طرقه على الأبواب، نلمح ظله يمرّ سريعًا بين العابرين، نحسه يقترب من حواف أيامنا، ومع ذلك نظل عاجزين عن فهمه. نعيش معه بلا لغة مشتركة، وبلا خبرة تمنحنا القدرة على استقباله بحكمة أو اتزان. الموت يفاجئنا دائمًا، حتى حين يكون متوقعًا؛ يربكنا، يخلخل يقيننا، ويعيد ترتيب كل ما حسبناه ثابتًا فى حياتنا. عندما رحل عزيز، بل أعز عزيز، عادت كل الوجوه الحبيبة تطاردنا: ربما كانت تستعد لاستقباله؟ أو ربما لتقول لنا: لا تخافوا، فقد عبر ليكون معنا، ولم يترككم، ولم يتركنا ربما!

• • •

وربما الأصعب ليس الموت نفسه، بل ما يتركه فى أرواحنا من فراغ. فراغ يشبه حفرة لا نعرف كيف نملؤها، فنعود إليها فى كل ليلة، نحاول أن نعيد بناء الوجوه التى غابت، ونستنطق الأصوات التى صمتت. وحين يرحل أحد الأحبة، تعود الثوانى محملة بكل ما عشناه معهم لحظة بلحظة: ضحكة هنا، تعليق عابر، يد تربت على كتف، دموع وبكاء على كل من أحببنا، وخوف عليهم جميعًا وقلق دائم، أو نظرة حملت ما هو أعمق مما تنطقه الكلمة.

• • •

رحل عزيز الذى خلق معنى الصداقة التى تنمو بلا ادعاء، بلا شروط، بلا مسافات. كان حضوره يشبه نسمة بحرية تأتى فى لحظة تعب، فتنعش الروح وتذكّرها بأن العالم لا يزال يحتفظ ببعض طيبه، بل بكل الطيبة، ومعه يسكن الصدق ويفصل، بل يخيط كل العلاقات بإبرته الحساسة ويغنيها عن كل ما عدا ذلك، وربما يكشف عورة العلاقات العابرة المغلفة بألوان وزركشة وابتسامات باهتة.

• • •

عشق لبنان كما لو ولد فيه. كان يجول فى أزقتها كمن يبحث عن تفصيل صغير فقده منذ زمن، وكثيرًا ما يعرفه أكثر من بعض اللبنانيين، يعتلى جبالها، ويتنفس من شواطئها، ويقرأ تاريخها فى حجارة بيوتها العتيقة. كان يرى فيها شيئًا من روحه، كما لو أن تلك البلاد رسمت جزءًا من ملامحه. ومع رحيله، صار لبنان أيضًا يحمل غصة أخرى، ورائحة غياب لا تخطئها الذاكرة، أو أصبح لبنان جزءًا من جمال تلك الروح التى عرفت الجمال بنقش الحرية وكثير من الضحك والحب والفرح. هو من أتقن كل ذلك وعشق الحياة بين رائحة الأقمشة ومقصات الخياطة. بل وحتى فى لحظاته الأخيرة كان يجد مساحة للمسة قماش عرفه، وسخرية ملاصقة له كجلده. لم أكن أفهمهم عندما كانوا يرددون عند وفاة أحبائهم: «إن الله أو الرب يقطف الورد من أرضه».. معهم حق، وردة خلف وردة، خلف زهرة.

• • •

عندما يرحل واحد منهم، من أحب الأحبة، تحضر جميع الوجوه دفعة واحدة: الذين غابوا قبلهم، والذين بكيناهم، والذين لم تمنحنا الأيام فرصة الحداد الحقيقى عليهم. يعودون واحدًا بعد الآخر، يجلسون فى زوايا الذاكرة، يتزاحمون على القلب، وكأن الموت حين يختار شخصًا واحدًا، يفتح الباب لكل الغياب المؤجل. كأنه يقول: مرحى لهم، فهم مع أناس أكثر صدقًا وجمالًا ومحبة.

• • •

ضحكاتهم تصبح أعلى فى الليل. فى العتمة، نسمع الصوت كما لو أنه لم يغب قط. ابتسامة هنا.. تعليق هناك على برنامج أسبوعى اعتاد أن يمنح الفسحة فى يومه له، وربما مشهد مشترك يعبر الخيال فجأة، فيربكنا مزيج الحنين والألم. نضحك ونبكى فى اللحظة نفسها، لأنهم لا يغيبون تمامًا، ولأن الذاكرة لا تعرف كيف توصد أبوابها بإحكام.

• • •

وهكذا.. نعيش مع الموت كمن يمشى فى طريق يعرف أنه سيعود يومًا ما إلى نقطةٍ مجهولة. لا نفهمه، ولا نحسن التعامل معه، لكنه يفرض حضوره علينا. وما يبقى لنا بعد كل رحيل، هو أن نحفظ الحب، ونصغى للذكرى، ونترك القلب مفتوحًا لأولئك الذين لا يغيبون حقًا.. لأنهم حين رحلوا، تركوا فى أرواحنا حياة أخرى لا تموت. أو نعيد ضحكاتهم وسخريتهم وعباراتهم وأقوالهم وتعليقاتهم ومحبتهم التى وزعوها على الكون، حتى أصبح كل من يمر دربه يردد: «هذا صديقى، بل أخى». بيننا ذكريات خاصة سنحتفظ بها، ويرى كل واحد منهم أن فى حياة عزيز مساحة له، وفى قلبه مساحات كسهول واسعة مليئة بزهور من كل بلدة أو قرية أو مدينة أو شاطئ مر به وأحبه. فى غيابه، امتلأت الحياة، بل الحيوات التى تركها ربما حتى لا نعيش الفراغ الذى يمتلئ بحضوره حتى فى الغياب.

كاتبة بحرينية

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة