منعطفات سياسية فى حياة مواطن عربى
الأربعاء 26 نوفمبر 2025 - 9:45 م
كان مراهقًا يافعًا عندما صدر القراران181 و194. لم يكن مؤهلًا أو واعيًا ليحكم على عمق وأهمية هذا المنعطف الأول فى مسيرته. تنوعت وتعددت الأطراف الصانعة والمحركة لهذه المسيرة الأولى. تعلم أن يثق فى قادته فى الحركة الكشفية وفى قادته فى الحركات «الإيمانية» المبكرة وفى قادته فى «التنظيمات السياسية» كفروع بدائية أو مراهقة فى المدرسة الثانوية لتنظيمات أقوى خارج أسوار المدرسة. قيل لنا إن القرارين بالفعل نكسة تنضم إلى نكسات فى نضالنا المصرى ضد الاحتلال البريطانى لمصر، نكسات تكتسى رداء خرق الوعود والاتفاقات الغامضة أو الملتوية الأسلوب.
لم يتوقف نضالنا السياسى رغم النكسات ولا توقفت المسيرات الوطنية ولا المسيرة القومية ولا التلاحم المشوب بالشك والحذر الدائم مع بعض قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية. سنوات مبكرة شهدت تناقضات وخلافات وخطوات أحيانًا متسرعة، سببها الظاهر هو الانعطافة الشديدة التى جسدها القرار الأممى المؤسس للصراع العربى الإسرائيلى الصادر فى عام 1947.
• • •
أمِن الظلم أم من العدل أن نُحمل النظام الدولى مسئولية جميع انعطافات هذه الأمة؟ ساد زعم أنها ليست فى الأساس أمة، ثم سقط الزعم عندما دخلت الشعوب حلبة التنوير وراحت تواجه مفاهيم غير مألوفة ومنها القومية العربية والأمة العربية. ولكنه عاد أقوى.
• • •
أمِن الظلم أم من العدل أنهم بعد ذلك، أو وسط ذلك، أضافوا إلى صفات الأمة، حتى إن وجدت، صفة أنها بلا راع من داخلها يقودها فنصبوا الاتحاد السوفييتى راعيًا لفريق فى الأمة ونصبوا الولايات المتحدة أو فرنسا أو بريطانيا راعيًا لفريق آخر؟ هبت ريح التغيير وصعدت من جديد وبشراسة وشر مبيت نبرات التفتيت والانفراط. وفى النهاية وكما رأينا فى روح وثنايا آخر القرارات، القرار 2803، توحد الرعاة ولكن بعد غياب أو تغييب مفهوم الأمة وغياب أو تغييب مفهوم الراعى.
• • •
أمِن العدل فى كثيره أو قليله، أم من الظلم، أن يقوم الرعاة، الأجنبى منهم والمتوطن حديثًا، وألمحوا إلى حرمان جماعة بشرية من حقها فى قوميتها؟ السبب الحقيقى والعنصر الكامن وراء هذا الحرمان هو الزعم بوجود أمة أخرى بعقيدة أخرى، منافسة على المكان، عدوانية التوجه، مستمرة فى التوسع واحتكار السيطرة على أدوات هذا التوسع.
• • •
أما الأدوات فكثيرة، والعقيدة على رأسها فهى أخطرها وأكثرها اختراقا للهيكل العصبى لأى دولة فى الإقليم. هذه العقيدة فى جوهرها لا تخرج عن الاستراتيجية التى استخدمت مع قيادات الفاتيكان فى العقود الأخيرة ومع غيرها من كنائس ومعابد ومناظرات المسيحية الأوروبية منذ نهاية القرون الوسطى. نراها فى أجلى صورها فى الاكتساح التاريخى الجارى هذه الأيام للكاثوليكية التقليدية فى أمريكا اللاتينية، وأقصد الهجمة المتقنة لاقتلاع الجذور التاريخية للثقافة الدينية الإيبيرية.
• • •
قبل أيام معدودة، صدر القرار رقم2803. هذه المرة القرار صادر عن مجلس الأمن وليس عن الجمعية العامة التى صدر عنها القراران 181 و194. كنا تعلمنا خلال السنوات الأخيرة ما لم تلقنه لنا محركات التعليم الجامعى وما بعد الجامعى. ما تلقناه ومارسناه يتلخص فى كلمات ليست كثيرة وهى أن الأغلبية ليست بالضرورة القوة النظامية الكافية لفرض رأيها وليست بالضرورة على حق. الأغلبية قررت أن تكون للفلسطينيين دولتهم المستقلة على أراضى كذا وكذا. رد نتنياهو بأغلبية كنيست يرفض قرار الأغلبية العظمى لدول العالم.
• • •
الكثرة ليست قوة، الكثرة قد تصنع حقًا لكن لا بد للأقوى من لجمها قبل أن تحاول فرض هذا الحق. هذه الكلمات تلخص أيضًا اجتماع أزمتين معاصرتين، هما أزمة القرار الدولى فى أوضاعه الراهنة وأزمة القرار السياسى الداخلى فى عديد المجتمعات التى نعرفها.
• • •
تعبنا ركضا وراء حكم بإدانة إسرائيل فى ارتكاب جريمة إبادة. الأغلبية فى كل موقع كانت معنا كضحايا وحلفاء ضحايا. لم تكن معنا الولايات المتحدة، الحليف الأكبر لإسرائيل ومصدر قوته العسكرية ودون مؤازرته ودعمه المسبق لا تدخل إسرائيل فى مواجهة دبلوماسية أو توسعية. نراها، نرى إسرائيل، لم تحرك بعد لمصلحتها سواعد وعبقريات الصين والاتحاد الروسى، أو لعلها حركت ولم تظهر نتائجها.
• • •
هناك رأى صاعد بقوة وسرعة فى الغرب يلمح إلى أن السياسيين فى الغرب خاضعون لإرادة وحش لا يشبع. وحش لم يشبعه اغتيال كينيدى الكبير وكينيدى الصغير ولا اغتيالات شتى فى دول إسلامية وعربية وحرب إبادة فى فلسطين ولا محاولات اغتيال جديدة فى الغرب متستر عليها وآخرها اغتيال كيرك وكان البديل الممكن لزهران ممدانى. ممدانى مهدد وهو على علم أكيد. لاحظنا، كما ولا شك لاحظ غيرنا أن فى عائلة الرئيس دونالد ترامب يرقد هذا الوحش، المسمى بالعقيدة الإبراهيمية، فى أحضان زوج ابنته وابنته أيضًا. وأن لا تفسير لكثير من السياسات الأمريكية المعاصرة سوى ضراوة وشهية هذا الوحش المهيمن على أعضاء الكونجرس وقيادات سياسية كثيرة فى بقية دول الغرب.
• • •
فشلنا ويجب أن نعترف بأخطائنا أو أوجه قصورنا فى التعامل مع قضايانا الإسرائيلية. وما القرار الأخير من مجلس الأمن إلا شهادة تؤكد استمرار نجاح إسرائيل واستمرار فشل العرب وحلفائهم فى الجنوب فى معظم حالات تواجههما. تعليقى على ما يبدو للكثيرين مصيرًا لنا. مصيرنا ليس محتومًا، ودليلى هو نجاح زهران الشاب المؤمن بما يفعل والرائع فى قدرته على تشكيل تحالفات، نجاحه فى إجبار ترامب على ترتيب أحسن استقبال له فى البيت الأبيض.
• • •
نجح ممدانى لأنه أقنع ترامب بأنه بدون قوته، أقصد قوة ممدانى، وخططه لمستقبل نيويورك ودونهما معًا لا نهوض لهذه المدينة الأشهر فى أمريكا وفى العالم كله. أعرف أن كليهما عبأ لهذا اليوم جيوشًا من الحلفاء فى الحزبين كما فى الإعلام، وكلاهما اشتغل وساوم وربما تنازل قليلًا ليكسب كثيرًا وفورًا. أعرف كل هذا، ولكنى أعرف أيضًا، بناء عن تجربة، أن ترامب لا يمكن إلا أن يكون قد أضمر لممدانى شرًا. فالقضية موضوع الخلاف والوفاق بينهما أغلى وأهم من أن تترك لشخص هو النقيض تمامًا لكل ما يمثله الطرف الآخر.
• • •
نرى فى السياسة الدولية عجبًا. لا أتحدث عن نقص فى الأمن وفى الأمان ولكن عن سببه. أكتب عن الانحدار المدهش فى مستوى مهارة وذكاء السياسيين بشكل عام. لا أكتب عن عالمنا العربى أو الإفريقى أو عالم الجنوب كما ظهر فى قمة العشرين التى انعقدت فى دولة جنوب إفريقيا، أو فى قمة المناخ التى انعقدت فى البرازيل. ففى الحالتين تعمدت الولايات المتحدة إصابة القمتين بالفشل وبالفعل فشلتا. نحن، وأقصد عالم الجنوب، يعيش فى مرحلة تدريب على العمل السياسى فى غياب الولايات المتحدة. أمريكا غائبة لأنها مشتتة الفكر والتقدير لدور العمل الأممى فى حال غاب عنه القطب الأعظم، غاب بمشاركته وغاب بقيادته وغاب بتمويل أنشطته. أمريكا تغيب بتدرج مدهش خلال العهود الرئاسية الأخيرة.
• • •
المراهق عند صدور القرار السيئ رقم 181 صار مسنًا عند صدور القرار الأسوأ رقم 2803.
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا