x قد يعجبك أيضا

ترميم

الإثنين 24 نوفمبر 2025 - 5:50 م

ليست جدران البيوت وحدها التى تتشقق مع الزمن، النفوس أيضا يطالها التصدع. هناك شروخ لا ترى بالعين، لكنها «تسمع و تشم، وتقرأ» فى الطريقة التى نمشى بها، وكلماتنا الصامتة. معظمنا يمضى فى الحياة حاملا أجزاء لم ننتبه يوما أنها تحتاج إلى ترميم: خوف مؤجل، علاقة متعبة، قرار هربنا منه، أو حلم أرجأناه حتى جف وتيبس.

فى لحظة، نكتشف أن الطريق لا يعود كما كان، وأن ما تهدم داخلنا لا يبنى بالسرعة التى هدم بها.. إنها تلك اللحظة التى يتوقف فيها الإنسان على باب عمر جديد، نهاية العشرينيات، منتصف الثلاثينيات، أو أى مرحلة يشعر فيها بأن الزمن يمر من حوله وهو ما يزال واقفا عند السؤال ذاته: هل أنا حيث يجب أن أكون؟ أم أننى مجرد نسخة أعيد طلاءها كل عام لأخفى ما يتصدع داخلى؟

وسط هذا التأمل، جاء فيلم «ترميم» أو Renovation للمخرجة الليتوانية جابرييل أوربونايت الذى عرض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى فى دورته الـ46، ليضع مرآة واضحة أمام هذا المعنى. ليس لأنه فيلم عن مبنى يتم تجديده، بل لأنه يلتقط ببراعة تلك اللحظة الدقيقة التى تتحول فيها أعمال الإصلاح الخارجية إلى تشققات داخلية لا يمكن تجاهلها.

تأخذنا أوربونايت إلى فيلنيوس، عاصمة لتوانيا، فى نهاية الربيع، قبل أيام من بدء فصل الصيف، حيث الشمس دافئة والمدينة مشرقة، والحياة مهيأة لتبدأ بعد سبات شتوى كثيف الثلوج، هناك تعيش إيلونا، شابة فى التاسعة والعشرين، وهى تحاول بلوغ «نقطة التحقق»  قبل أن تعبر عتبة الثلاثين.

 تنتقل إيلونا للعيش مع صديقها ماتاس فى شقة جديدة فى عمارة بحى يبدو راقيا، لكن سرعان ما تنطلق أعمال ترميم للمبنى، هنا يبدأ كل شىء فى الاهتزاز.. تظهر التشققات أولا على الجدران، قبل أن تتسلل إلى علاقتها مع ماتاس، بل وأفكارها عن نفسها، لتكتشف أن الاستقرار المادى لا يعنى بالضرورة استقرارا داخليا.

فى خلفية الأحداث، يظهر عامل أوكرانى يعمل ضمن فريق الترميم، ورغم أنه ليس جزءا من علاقة إيلونا وماتاس، فإنه  يمثل حضورا دلاليا مهما، فهو تذكير بالحرب التى تدور بالقرب من ليتوانيا، ومرآة تثير أسئلة حول الذنب، النجاة، والخوف من الانغماس فى تفاصيل الحياة اليومية بينما العالم يهتز من حولنا.

العلاقات الإنسانية الأخرى فى الفيلم، كعلاقة إيلونا بأمها التى تظهر فى مشاهد قليلة لكنها مؤثرة، أو علاقتها بالجيران، كلها تمثل طبقات من المخاوف والاحتمالات، كأنها نماذج مستقبلية تخشى البطلة أن تتحول إليها، أو تحاول تفاديها وهى تعيد بناء حياتها كما ترمم بناية شقتها.

خلف هذه التفاصيل اليومية، تُلمِح المخرجة جابرييل أوربونايت وهى واحدة من أبرز الأصوات الصاعدة فى السينما الليتوانية، بذكاء إلى أننا نعيش فى عالم يمتلئ بالتشقق، فهذا التوازى بين تصدع الجدران وتصدع المشاعر لا يأتى مصادفة، فهو جوهر البناء الدرامى الذى اعتمدته أوربونايت، التى كتبت الفيلم على مدار أربع سنوات.

 خلال هذه الفترة، كانت المخرجة، كما قالت فى الندوة التى تلت عرض فيلمها فى المسرح الكبير بدار الأوبرا، تكبر جنبا إلى جنب مع بطلتها، إلى أن «انفصلت الشخصيتان تدريجيا، إذ بدأت إيلونا كشبه مرآة للمخرجة، ثم أصبحت شخصية مستقلة ذات دوافع وعلاقات وخيارات مختلفة» وكأن عملية خلق الفيلم كانت بدورها ترميما ذاتيا، تشبه ما تمر به إيلونا.

وفى النهاية، لا يقدم الفيلم، وهو إنتاج مشترك بين ليتوانيا ولاتفيا وبلجيكا، جوابا عن مستقبل العلاقة بين إيلونا وماتاس، فكما تقول المخرجة: لو عادت البطلة إلى شريكها ستتكرر المشاكل، ولو اختارت طريقا جديدا ستواجه تحديات أخرى.

أهم ما يقدمه «ترميم» أنه يذكرنا بأن الشقوق لا تعنى النهاية، ويقول بلغة بسيطة إن البناء الحقيقى، أو الاكتمال، ليس ما نراه، بل ما نتجاهله، وإن ما نخشى أن يظهر للعلن، سيظهر مهما أعدنا طلاءه.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة