تأبى كل من واشنطن وتل أبيب إلا تعطيل عملية إعادة إعمار غزة،
سواء عبر إعاقة العروج إلى المراحل التالية من اتفاق وقف إطلاق النار المبرم فى العاشر من أكتوبر الماضى، أو من خلال اجتزاء الإعمار المرتقب وتنفيذه بشكل انتقائى تمييزى لصالح مساحة 55% من القطاع يسيطر عليها جيش الاحتلال، مقابل استبعاد الشريط الخاضع لسلطة حماس،
أو وضع شروط تعجيزية لإطلاق العملية المتعثرة، كمثل نزع سلاح حركة حماس وأخواتها من الفصائل الفلسطينية المسلحة.
بموازاة ذلك، يصر الاحتلال على استبقاء غزة إقليما غير قابل للحياة، خصوصا مع تفاقم استحالة الأوضاع المعيشية خلال الشتاء البارد والممطر. ففى حين تقتضى المرحلة الأولى من الاتفاق فتح معبر رفح، مع السماح بدخول 600 شاحنة مساعدات يوميا لسكان القطاع، تصر قوات الاحتلال على إبقاء المعبر مغلقا، متذرعة بتقاعس حماس فى تسليم جثامين أسراها الأموات، فيما لم تسمح سوى بدخول 150 شاحنة فقط. كما تمنع دخول الأطعمة المغذية، الأدوية، الخيام، ومستلزمات الإيواء الضرورية، الأمر الذى يضطر مواطنو القطاع المنكوب إلى الرضوخ لمخطط «التهجير الإسرائيلى الناعم» والممنهج.
ما إن نجحت المصالح الفلسطينية فى الصمود، ابتغاء إجهاض مخطط التهجير القسرى الجماعى من غزة إلى سيناء، حتى لجأت سلطات الاحتلال إلى حيل بديلة لمباشرة مؤامرتها الشيطانية الرامية إلى إفراغ القطاع من قاطنيه.
فمنذ مايو الماضى، بدأت تلوح فى الأفق أنشطة مريبة لمؤسسة مثيرة تعرف باسم «المجد أوروبا»،
باعتبارها واجهة غامضة تعمل على تسهيل تهجير سكان غزة إلى وجهات مختلفة تحت غطاء إنسانى، مستغلة المأساة المذرية فى القطاع.
وعلى موقعها الإلكترونى، عكفت المؤسسة على تعريف نفسها بأنها «منظمة إنسانية» تأسست فى ألمانيا عام 2010 لتقديم المساعدات وجهود الإنقاذ للمجتمعات المسلمة فى مناطق النزاعات والحروب، مع التركيز على مساعدة الجرحى والمصابين، تسهيل وصول المرضى إلى مرافئ ومراكز الرعاية الطبية الحرجة،
وتأمين سفر الحالات المرضية المتدهورة إلى الخارج لتلقى العلاج، مع ضمان مرافقة ذويهم لهم حتى التعافي. وتعتمد المنظمة على موقع إلكترونى مسجّل فى أيسلندا، تروج من خلاله لما تسميه «الإجلاء الإنسانى» للمدنيين، بقصد التورية على عمليات الإخلاء غير الشرعية.
ووفق صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، تتلقى المنظمة طلبات الخروج من غزة عبر تطبيق «واتساب» من رقم هاتف إسرائيلى.
ويتم نقل المسافرين بحافلات إسرائيلية تحت حراسة جيش الاحتلال إلى المناطق الخاضعة لسيطرته،
وصولاً إلى نقطة عسكرية شرق خان يونس أو رفح، ومنها إلى معبر كرم أبو سالم،
ثم إلى مطار رامون الإسرائيلى بصحراء النقب، ومنه إلى جنوب إفريقيا بعد حصول تل أبيب على إذن من دولة ثالثة لاستيعابهم.
تفيد تقارير غربية بأن المنظمة ذراع استخباراتية إسرائيلية يسعى إلى جمع معلومات حساسة عن الفلسطينيين وتسهيل مخطط تهجيرهم الجماعى من القطاع.
وقد كشف تحقيق لصحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية المعارضة، نُشر فى 16 نوفمبر الماضى،
أن نشاطات المنظمة بدأت تظهر عقب بسط جيش الاحتلال سيطرته الأمنية على القطاع. كما أُنشئ موقعها الإلكترونى فى فبراير الماضى،
وهو نفس الشهر الذى أعلن فيه ترامب عن مخططه بشأن تحويل غزة إلى «ريفييرا» الشرق الأوسط بعد تهجير سكانها منها «طوعا».
وكانت القناة 12 الإسرائيلية قد ذكرت فى أغسطس الماضى أن إسرائيل تجرى محادثات مع خمس دول وأقاليم هى: إندونيسيا، أوغندا، جنوب السودان، ليبيا، وأرض الصومال؛ بشأن إمكانية استقبال مهجرين فلسطينيين، وزعمت أن بعضها بات يبدى انفتاحا أكبر مما كان عليه الحال فى السابق لقبول الهجرة الطوعية من قطاع غزة.
ورغم ادعائها العمل من مقارها بالقدس وبقاع أوروبية، لم يثبت أى وجود قانونى لتلك المنظمة المشبوهة داخل البقاع التى زعمت العمل منها. وقد أفادت تقارير إسرائيلية ودولية بأنها تروّج لمخطط تهجير قسرى يتم عبر رحلات تنقل مئات الفلسطينيين بطرق مثيرة للشكوك إلى دول إفريقية وآسيوية مقابل مبالغ مالية تتخطى الألفى دولار للفرد الواحد، ومن ثم تأتى أنشطتها ضمن مخطط أوسع يطلق عليه «التهجير الناعم» لسكان قطاع غزة.
أجمعت التقارير على أن من يدير رحلات التهجير غير الشرعية لتلك المنظمة المريبة منذ مايو الماضى هو توم ريان أرليند، الذى يحمل الجنسيتين الإسرائيلية والإستونية. وبإيعاز من السلطات الإسرائيلية، يتولى ليند التنسيق مع «مكتب الهجرة الطوعية» الذى أنشأه يسرائيل كاتس لدى وزارة الحرب فى مارس من العام الماضى، برئاسة نائب وزير الدفاع، كوبى بليتشتاين. ويستهدف ذلك التنسيق ترتيب رحلات المغادرة الممنهجة من غزة عبر تسهيل منح الموافقات على خروج الفلسطينيين الراغبين فى الفرار من مآسى القطاع إلى وجهات شتى دون عودة.
يشكل التنسيق الممنهج بين منظمة «المجد أوروبا» و«مديرية الهجرة الطوعية» ذراعا تنفيذية لمشروع «الترانسفير الطوعى»، الذى يروّج له وزراء اليمين الدينى فى الحكومة المتطرفة الحالية، كمثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومى إيتمار بن غفير، بغرض إتمام مخطط تصفية القضية الفلسطينية. وقد أقر جيش الاحتلال فى بيان رسمى بتعمده تسهيل مغادرة الفلسطينيين الحاصلين على تصاريح أمنية من «السلطات المختصة»، فى إشارة إلى «مكتب الهجرة الطوعية»، حيث وافقت سلطات الاحتلال على أكثر من 95% من طلبات الخروج المقدمة من سكان القطاع. فيما رحبت «هيئة الهجرة» بالتواصل مع منظمة «المجد أوروبا»،
ومنحتها تصاريح أمنية لتهجير الغزيين وفتحت مطار «رامون» أمام المهاجرين. ومن المعلوم أن الخروج عبر معبر كرم أبو سالم يتطلب تنسيقا أمنيا حساسا، بينما يحتاج الانتقال إلى مطار رامون إلى مؤازرة جهة نافذة وقادرة على تجاوز إجراءات مشددة وتدابير معقدة.
خلال شهرى أكتوبر ونوفمبر الماضيين، حطت بمطار جوهانسبرج طائرتان مستأجرتان قادمتان من مطار «رامون» العسكرى جنوب فلسطين المحتلة عبر محطات توقف،
وعلى متنهما أكثر من 330 راكبا فلسطينيا من قطاع غزة. بدورها، أعربت سلطات جنوب إفريقيا عن ارتيابها حيال أجندة إسرائيلية واضحة لتطهير غزة والضفة الغربية من سكانهما الفلسطينيين، وهو أمر تعارضه بريتوريا. فرغم أنها تستضيف أكبر جالية يهودية فى إقليم إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، إلا أنها تدعم الحقوق الفلسطينية، وقد سبق لها أن تقدمت بشكوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية نهاية العام 2023،
متهمة إياها بارتكاب جريمة «إبادة جماعية» ضد الفلسطينيين فى غزة. كما أدان الرئيس الجنوب أفريقى سيريل رامافوزا العملية، واصفا إياها بأنها «طرد للفلسطينيين من وطنهم»، وأمر بفتح تحقيق استخباراتى رفيع المستوى. كذلك، أصدر تحالف من منظمات المجتمع المدنى الجنوب إفريقى بيانا اعتبر رحلات التهجير دورا مقيتا تمارسه منظمة «المجد أوروبا» ضمن مشروع إسرائيلى لمباشرة التطهير العرقى فى غزة.
بمقاربة قانونية صرفة، يرى اختصاصيون أن ما يقوم به الاحتلال من تهجير «ناعم» أو «طوعى» للفلسطينيين، إنما يندرج ضمن جريمتى الاتجار بالبشر والتهجير القسري.
فبحسب «بروتوكول باليرمو» لعام 2000، تتوفر أركان جريمة الاتجار بالبشر من حيث: الفعل (النقل)، الوسيلة (الخداع واستغلال الضعف)، والغرض (الاستغلال المالى والسياسى).
وبموجب «نظام روما الأساسى» للمحكمة الجنائية الدولية للعام 1998،
يعد النقل القسرى لمجموعة سكانية تحت غطاء «الطوعية» جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية. فتحت مظلة الشعارات الإنسانية، يباشر الاحتلال تنفيذ مخطط «التهجير الناعم» لسكان غزة من خلال رحلات إلى وجهات غير معلومة، بلا وثائق رسمية أو إجراءات قانونية شفافة، ودون ضمانات واضحة بخصوص حق العودة، مع تقويض قدرتهم على إثبات هويتهم،
الأمر الذى يجعلهم ضحايا خطة تهجير خبيثة تنشد التحايل على الرفض الدولى لعمليات الإجلاء غير القانونية.
فى محاولة رخيصة جديدة لابتزازهم والضغط عليهم لانتزاع تنازلات بشأن مسألة التهجير، عاودت سلطات الاحتلال إشعال حربها الهجينة ضد مصر عبر إشاعة الافتراءات والأكاذيب المضللة. فقد ادعت دوائر إسرائيلية وجود تنسيق بين الاحتلال والقاهرة حول فتح معبر رفح لتسهيل انتقال سكان غزة إليها بدون عودة. بدورها، سارعت القاهرة إلى نفى تلك المزاعم، مؤكدة صلابة موقفها المناهض لتهجير فلسطينيى غزة، ومجددة التزامها فتح المعبر لمرور الفلسطينيين فى الاتجاهين، بغية تلقى العلاج فى مصر مع احتفاظهم بحق العودة دون معوقات، حسبما ورد بخطة الرئيس ترامب للسلام واتفاق وقف إطلاق النار الموقع فى أكتوبر الماضى.