استراتيجية الأمن القومى الصادرة فى نوفمبر 2025 ليست مجرد وثيقة سياسية؛ إنما الميثاق الفكرى لاستراتيجية جديدة ترفض صراحة رؤية ما بعد 1991 التى كانت ترى الولايات المتحدة الضامن الذى لا غنى عنه لنظام عالمى ليبرالى، وتقدم واقعية قومية منضبطة تخضع كل التزام خارجى لاختبار واحد: هل يخدم مباشرة المصالح الحيوية الأساسية للأمة الأمريكية، أمنها، ازدهارها، حدودها، ونمط حياتها؟
عالميا: النتائج زلزالية. ففى آسيا، تتخلى الاستراتيجية عن «الردع المتكامل» لصالح ترتيب أولويات قاسٍ: الصين هى المنافس الند الوحيد، وكل قضية أخرى ــ تايوان، بحر الصين الجنوبى، كوريا الشمالية ــ تُقيَّم فقط من زاوية ما إذا كانت تساعد أو تعيق المهمة المركزية: منع بكين من تحقيق الهيمنة على المحيطين الهندى والهادئ. يُقال للحلفاء بصراحة: إما أن تنفقوا أكثر بكثير على الدفاع أو تفقدوا الحماية الأمريكية؛ فاليابان والهند ستُسلَّحان تسليحًا ثقيلًا، بينما قد يُترك شركاء أقل أهمية لمصيرهم.
أوروبا تواجه أقسى إنذار فى تاريخ الناتو: ارفعوا الإنفاق الدفاعى إلى 3-5% من الناتج المحلى الإجمالى خلال خمس سنوات (الوثيقة تصف نسبة 2% بأنها «مضحكة») وإلا فإن الضمانة الأمنية الأمريكية ستتلاشى. الرسالة الضمنية: يجب على أوروبا أن تتعلم من جديد كيف تكون فاعلًا استراتيجيًا جادًا وإلا تصبح منطقة محايدة بين روسيا المنهكة وأمريكا «أمريكا أولًا»، وحذرت من فقدانها هويتها الحضارية.
فى نصف الكرة الغربى، تعيد الاستراتيجية إحياء مبدأ مونرو وتحديثه باسم «ملحق ترامب»، معلنة أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبى مجالًا أمريكيًا حصريًا يُطرد منه كل قوة أجنبية معادية (الصين، روسيا، إيران) بالإكراه الاقتصادى أو العقوبات أو ــ إذا لزم الأمر ــ التدخل المباشر.
إفريقيا تُعتبر تقريبًا منطقة ثانوية، إلا حيث تهدد هيمنة الصين على المعادن أو مسارات الهجرة الجماعية المصالح الأساسية. عصر المساعدات التنموية الكبرى وحفظ السلام الأمريكى انتهى.
وتستخدم الاستراتيجية ثلاث أدوات ثورية:
- تسليح هيمنة الطاقة الأمريكية للحد من مصادر دخل الخصوم.
- النظام المالى القائم على الدولار كخنق للاقتصادات المعادية.
- استعداد للانسحاب من أى التزام لا يخدم المصالح الأمريكية بشكل واضح وفورى.
ولا مكان ستكون فيه هذه التحولات العالمية أكثر وضوحًا من الشرق الأوسط ــ المنطقة التى نزفت الولايات المتحدة فيها أكثر من أى منطقة أخرى دمًا وأموالًا ومصداقية خلال العقود الثلاثة الماضية.
الشرق الأوسط فى النظام الاستراتيجى الجديد
تختصر الاستراتيجية طموحات أمريكا فى الشرق الأوسط فى جملة واحدة بلورية فى الصفحة 27:
«نريد منع أى قوة معادية من الهيمنة على الشرق الأوسط وإمداداه من النفط والغاز ونقاط الاختناق التى تمر منها، مع تجنب (الحروب الأبدية) التى أوقعتنا فى المنطقة بتكلفة باهظة».
لا ذكر لنشر الديمقراطية، حقوق الإنسان، بناء الأمم، أو حتى عبارة «حل الدولتين». القضية الفلسطينية تُخفَّض من «ضرورة استراتيجية» إلى هامش إنسانى. لأول مرة منذ 1945، تعلن الولايات المتحدة سياسة شرق أوسطية هى فعليًا «توازن بحرى»: حافظوا على النفوذ الحاسم، لكن بثمن زهيد، عبر وكلاء إقليميين، نفوذ اقتصادى، وتطبيق انتقائى للقوة العسكرية الساحقة.
النتائج تتكشف عبر ستة مجالات مترابطة.
1- إيران: الحصار المطلق، وانهيار النظام نتيجة مقبولة
تتعامل الاستراتيجية مع عملية «مطرقة منتصف الليل» ــ الضربات الجوية واسعة النطاق التى دمرت منشآت نطنز وفوردو والبنية التحتية النووية المرتبطة بها فى الأشهر الأولى من الولاية الثانية ــ كأنها خط الأساس الاستراتيجى الجديد. مع تراجع التهديد النووى لعقد على الأقل، تحررت واشنطن من القيود السياسية التى منعت حملة ساحقة حقًا فى 2018 ــ 2020.
«الضغط الأقصى 2.0»: العقوبات ستُرفع إلى مستويات تجعل سياسة «تصفير صادرات النفط» 2019 تبدو معتدلة. البنوك الأوروبية والهندية والصينية ستواجه خيارًا بسيطًا: الوصول إلى النظام المالى الأمريكى أو التجارة مع إيران. صادرات الغاز الطبيعى المسال والنفط الخام الأمريكى ستغمر الأسواق فى الوقت نفسه، محرومة طهران من أى أمل فى أسعار أعلى.
الوثيقة لا تذكر «تغيير النظام»، لكن كل أداة دون غزو علنى ــ عمليات سرية، دعم الاحتجاجات الداخلية، عمليات سيبرانية، تنسيق هادئ مع إسرائيل ودول أخرى ــ ستُستخدم من أجل تسريع انهيار الجمهورية الإسلامية من الداخل. إيران منهارة ومُضعَّفة لا تُعتبر خطرًا بل أسرع طريق لاستقرار المنطقة على الشروط الأمريكية.
-
إسرائيل وما وصف بأنه محور سنى:تفويض أمريكى مطلق لنظام إقليمى جديد.
تعد القدس صراحة الركيزة الشرقية لتحالف جديد ضد إيران. كل قيد أمريكى سابق ــ دعوات علنية لضبط النفس فى غزة أو لبنان، الضغط على المستوطنات، ربط مبيعات الأسلحة بتقدم على مسار الدولة الفلسطينية ــ أُلغى.
ستُعزَّز اتفاقيات أبراهام تعزيزًا هائلًا، بكميات ضخمة من السلاح المتقدم والغطاء الأمنى مقابل تطبيع كامل مع إسرائيل وإنشاء قيادة عسكرية مشتركة تمتد من الأطلنطى إلى الخليج وتل أبيب، علما بأن الولايات المتحدة لن تُعلّق على استخدام ما تبيعه طالما وُجّه ضد إيران أو وكلائها.
الملف الفلسطينى مغلق عمليًا كقضية استراتيجية. غزة ستُعاد بناؤها بشرط نزع السلاح الكامل. الضفة الغربية ستتجه نحو ضم فعلى دون اعتراض أمريكى. لأول مرة منذ 1967، تتمتع إسرائيل بحرية استراتيجية غير محدودة مدعومة بتأييد أمريكى لا لبس فيه.
3- الطاقة كسلاح، لا كثغرة أمنية
هيمنة الطاقة الأمريكية تحول جيوسياسية النفط. لم تعد الولايات المتحدة طالبة عند أوبك؛ بل أصبحت المُفسِد الأول. كلما حاول أوبك+ خفض الإنتاج لرفع الأسعار، ستفتح واشنطن الصنابير وتغرق السوق. وأمام الدول البترولية خيارًا وجوديًا: إما الاصطفاف الكامل مع الكتلة الأمريكية ــ الإسرائيلية وقبول نفط بين 50 ــ 60 دولارًا كوضع طبيعى جديد، وإما المقاومة ومشاهدة اقتصادها ينهار تحت الغاز الصخرى والغاز الطبيعى المسال الأمريكى.
وتهدف هذه السياسة إلى تجوّيع إيران وروسيا من دولارات البترول، وتنزع السياسة من الصين أى نفوذ على أسواق الطاقة العالمية، وتمنح الولايات المتحدة قوة إكراه غير مسبوقة على كل دولة مستوردة للنفط من ألمانيا إلى الهند.
-
مكافحة الإرهاب:نحيف، قاتل، ومحلى.
دفنت عمليات مكافحة التمرد بشكل واسع النطاق القوات الأمريكية المحدودة المتبقية فى سوريا والعراق وستعمل بقواعد اشتباك مرنة للغاية، معتمدة على القوة الجوية والطائرات المسيرة والقوات الخاصة. الشركاء المحليون، قسد فى سوريا، إسرائيل فى الجنوب، وقبائل سنية سيتحملون عبء السيطرة على الأرض.
داعش والقاعدة سيُضربان بلا هوادة، لكن لا اهتمام بإعادة بناء دول فاشلة. حملة 2014-2017 التى سحقت الخلافة إقليميًا ستكون النموذج: دمر، غادر، كرر عند الحاجة.
-
روسيا والصين:فى الشرق الأوسط.
وضع روسيا فى سوريا أصبح لا يُحتمل مع تجويع موسكو من الأموال بالعقوبات وأسعار الطاقة المنخفضة، ومع منح تركيا (عضو الناتو الذى تسعى الوثيقة لاستعادته كليًا) يدًا حرة فى الشمال، فإن الشرق المتوسط سيعود للسيطرة الغربية.
استثمارات الحزام والطريق الصينية فى باكستان والعراق والخليج ستواجه عقوبات ثانوية عنيفة ومنافسة من منطقة اقتصادية مدعومة أمريكيا من المغرب إلى عُمان.
-
مخاطر حرب كبرى:أعلى قصير الأجل، أقل طويل الأجل.
من المفارقات أن أكبر خطر لحرب إقليمية كبرى ــ إغلاق إيران لمضيق هرمز، هجمات جماعية على بنية الطاقة الخليجية، أو صراع مباشر إيران ــ إسرائيل ــ قد يبلغ ذروته فى 2026-2028 بالضبط لأن طهران ستكون محاصرة ويائسة وتواجه انهيارًا وجوديًا. لكن إذا نجت الولايات المتحدة وحلفاؤها من تلك العاصفة، فالنتيجة طويلة الأجل هى شرق أوسط لا تستطيع فيه أى قوة معادية تهديد ممرات بحرية حيوية أو إمدادات طاقة، وتكون فيه الالتزامات الأمريكية ضئيلة جدًا. الخلاصة، شرق أوسط أكثر برودة، أوضح، وأكثر أمريكية.
استراتيجية الأمن القومى 2025 لا تَعِد بشرق أوسط ألطف أو أرحم. إنها تَعِد بشىء أثمن بكثير من وجهة نظر واشنطن، منطقة تُؤمَّن فيها المصالح الأمريكية الأساسية ــ منع هيمنة قوة معادية على نقاط اختناق الطاقة ــ بجزء ضئيل من الدماء والكنوز والطاقة الدبلوماسية مقارنة بأى وقت منذ 1979.
تفعل ذلك بتفريغ كل الأعباء العسكرية والحكومية تقريبًا على عاتق الحلفاء الإقليميين (إسرائيل وبعض الدول العربية)، باستخدام نفوذ اقتصادى ساحق (عقوبات + صادرات طاقة)، وبقبول قدر أعلى من العنف الإقليمى والاستبداد كثمن الابتعاد عن «الحروب الأبدية».
النتيجة ستكون على الأرجح نظامًا إقليميًا أكثر برودة، أكثر قسوة، لكنه أكثر وضوحا: ولأول مرة منذ عقود، تعامل الولايات المتحدة الشرق الأوسط كما قالت النظرية الواقعية دائمًا إن القوى العظمى يجب أن تفعل: منطقة مهمة لكن ليست وجودية، ولا يهم استقرارها إلا بقدر ما يؤثر على المصالح الأمريكية الأساسية، سواء أخلق منطقة أكثر سلامًا بشكل عام من عدمه، طالما ظل أكثر اتساقا وملاءمة للأولويات الأمريكية.
استراتيجية ستواجه عددًا من التحديات ويكون لها الكثير من النتائج والتداعيات للعالم أجمع على مدار ولاية ترامب الثانية وما بعدها.
نقلا عن إندبندنت عربية