حوّل نجيب محفوظ الحارة المصرية القاهرية تحديدا إلى مكان شعبى فى العالم، أو حوّله إلى وسط مكانى ثقافى مُتداول، أى مكرر فى الذاكرة، أو أنه علامة أساسية من علامات المدينة، فيقال «وسط البلد»، أو «مركز المدينة» أو قلبها، أى نبضها الشعبى الكثيف بالحركة، والأصوات، والألوان، والعلاقات.
فى سوريا، لم يكن هناك كاتب حارة بالطريقة المحفوظية، إن جازت العبارة، ولكن وجدت دراما تليفزيونية سورية حوّلت الغوطة فى ريف دمشق إلى مكان آخر فى العالم يشبه حارة محفوظ.
قاومت الغوطة برجالها ونسائها وشبابها وفتيانها الاستعمار الفرنسى، وأخرجته ذليلاً مكسورًا من الشام، وأعطت الغوطة الماء والظل والخضرة والفاكهة لأهل الهلال الخصيب كلّه، وترمز هذه البقعة السورية الشامية الصغيرة إلى العطاء والوفرة والجمال، والغوطة كما هى فى التليفزيون هى أيضا فى الجغرافيا: رجال مسكونون بالبطولة دائما. أبطال شديدو البأس والملامح، لكن تكمن فى قلوبهم إنسانية خضراء، سهلة، وبسيطة، تماما مثل بساطة التراب الذى يمشون عليه، ويعتبرونه، أمّهم الأرض.
رمزية الغوطة الدمشقية السورية رمزية ثقافية أيضا، فمن هذه البقعة الخضراء المائية الصغيرة، وُجِدَ فى الهوية الثقافية الشامية شعراء، ورسّامون، وروائيون، ومغنّون، وموسيقيون، ومثقفون أحرار مستقلّون.
لا أدرى إن كان محمد الماغوط من الغوطة أم ليس منها، ولعلّه ليس منها بالمعنى الميلادى أو المكانى، لكن ما من قصيدة له إلّا وفى قلبها شجرة، يجرى تحتها نهر بردى بكل شبابه آنذاك، و«آنذاك» هذه تعنى أن النهر الذى روى الناس والأشجار والطيور جرى تجفيفه، وتصحيره، وتحويله إلى مرثية.
فى التحوّل السياسى الشعبى الذى شهدته سوريا قبل سنوات، وأدّى بالتدريج والصبر ووفرة البطولة إلى انقلاع نظام بشار الأسد إلى الخيبة والذل، تحوّلت الغوطة إلى رمز وإلهام وبطولة.
ما من سورى، على أى حال، وفى كل حال، إلّا ويعرف جيدا المعنى النبيل الذى تنطوى عليه كلمة «بطولة» فى هذه التحية العربية للغوطة، ذلك أن البطل السورى هنا تحديدا فى الغوطة هو الغوطة نفسها، المكان الجغرافى والبشرى.
التاريخ يُصنع عادة ببطء وتراكم، ذلك أن التاريخ ليس مبنىً يجرى تشييده بالحجارة والأسمنت، بل هو صياغة وميلاد وصناعة رجال.
الأدب، أيضا جزء من التاريخ، وأراهن هنا على أن الغوطة السورية ستكون فى السنوات القادمة تاريخ وأدب سوريا الجديدة.
يوسف أبو لوز
صحفى أردنى
جريدة الخليج الإماراتية