بعد فيتو الرئيس.. من هنا نبدأ

الإثنين 8 ديسمبر 2025 - 7:10 م

وجدت مصر نفسها فى مشهد انتخابى غير مسبوق، دورات اقتراع تكاد تتعاقب أسبوعيًا، تكشف عن حجم الارتباك الذى أصاب المشهد السياسى والإدارى منذ انتهاء المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية.

 وجاء تدخل الرئيس، بفيتو واضح تجاه ما شاب تلك المرحلة من مخالفات، لإعادة تصحيح المسار ومحاولة الوصول لدرجة انضباط للعملية الانتخابية بما لا يؤثر على تحقيق إرادة الناخبين.

دخلنا فى سلسلة من الجولات المتتابعة، أشبه بماراثون انتخابى مفتوح، يُنتظر أن يمتد حتى مطلع يناير المقبل، قبل أن تبدأ الإجراءات النهائية لولادة مجلس النواب الجديد بعد مخاض طويل وتعثر غير معتاد. ورغم استمرار ظاهرة شراء الأصوات التى عانت منها العملية الانتخابية لسنوات طويلة، أسهم الفيتو الرئاسى فى الحد من عدد من التجاوزات الجسيمة، خصوصًا ما يتعلق بحصر الأصوات، أو منع مندوبى المرشحين من حضور عمليات الفرز، أو تعطيل حصولهم على محاضر اللجان، فضلًا عن تقليص حجم الدعاية فى محيط مراكز الاقتراع. وانعكست هذه الإجراءات بالفعل على تحسّن نسبى فى أداء المرحلة الثانية، وكذلك الجولة الأولى من انتخابات الإعادة فى الدوائر التسع عشرة التى أُلغيت نتائجها، مقارنة بما شهدته المرحلة الأولى.

غير أنّ الحصر العددى والأرقام المبدئية التى خرجت من الصناديق كشفت عن فجوة بين الناخبين والعملية السياسية؛ وأصبح العزوف الشعبى عن المشاركة أوضح من أى وقت مضى، ليعكس أزمة ثقة عميقة بين المواطنين والأحزاب السياسية بمختلف اتجاهاتها، وبعض المؤسسات التى قد لا تكون متناغمة مع أولويات الناس اليومية، ولا قادرة على استيعاب التحولات الاجتماعية والاقتصادية التى فرضت نفسها على المجال العام خلال السنوات الأخيرة.

 

متى بدأ الارتباك؟

لم يبدأ هذا الارتباك من يوم الفرز أو التصويت، بل بدأ بسلسلة من الممارسات المتراكمة التى غيبت السياسة عن المجال العام، وأبعدت قطاعات واسعة عن صناديق الاقتراع، تاركة المجال لآليات تقليدية مثل «الكراتين» و«الكوبونات»، لجذب شرائح محدودة من الفقراء، فى مقابل انصراف الكتلتين الأكثر تأثيرًا الشباب الذين يتجاوز عددهم، وفقًا للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء بأكثر من 21 مليون شاب فى سنّ التصويت، والطبقة المتوسطة التى يُفترض نظريًا أن تمثل الثقل التصويتى الأكبر فى أى استحقاق انتخابى.

بدأ الارتباك حينما أصر مجلس النواب فى الفصل التشريعى الخامس على عدم تعديل النظام الانتخابى مفضلًا استمرار العمل بنظام القائمة المطلقة المغلقة والفردى، ولم تستجب الحكومة لمطالب المعارضة التى حاولت الوصول إلى حلول وسط تجمع بين الأنظمة المختلطة، بحيث يكون ثلث للقائمة المطلقة المغلقة وثلث لقائمة نسبية وثلث آخر للفردى.

ومع اقتراب الاستحقاق الحالى، وصلت الأزمة إلى ذروتها؛ فانفجرت الخلافات داخل الأحزاب المشاركة فى تشكيل القائمة المطلقة. وتصاعدت الأزمة مع موجة استقالات لقيادات وأعضاء من أحزاب كبرى.

لم تقتصر الأزمة على مقاعد القائمة المضمونة فى ظل غياب قوائم منافسة، بل امتدت إلى الصراعات المحتدمة على المقاعد الفردية ومحاولات هندستها، وفق قواعد محاصصة شبيهة بتلك التى تحكم تشكيل القائمة المطلقة. غير أنّ هذه الهندسة بدت وكأنها أغفلت عوامل سياسية واجتماعية مؤثرة، مثل ثقل العائلات والقبائل فى المناطق الريفية، أو الحضور الشعبى لبعض المرشحين فى الدوائر الحضرية؛ وهى عوامل قادرة على قلب الحسابات وإرباك المخطط برمته.

 

كيف نصحح المسار؟

تحاول كل مؤسسات الدولة تحصين مجلس النواب من أى شبهات، فتعيد الهيئة الوطنية للانتخابات الاقتراع فى 19 دائرة، وتطبق أحكام المحكمة الإدارية العليا فتلغى نتائج 30 دائرة أخرى نستعد لإعادتها من جديد، وتضبط وزارة الداخلية بعض المتورطين فى عمليات شراء الأصوات.

ولكى لا يقتصر الإصلاح على إجراءات مؤقتة، يجب اتخاذ خطوات جادة نحو الإصلاح السياسى الشامل، ويأتى على رأس هذه الخطوات العودة إلى توصيات المحور السياسى للحوار الوطنى، التى تمثل خارطة طريق يجب فتح مسار تنفيذى واضح لتطبيقها.

لم يختلف أى من المشاركين فى الحوار الوطنى، مهما اختلفت انتماءاتهم، على القواعد العامة لحرية الرأى والتعبير، وحرية عمل الأحزاب والجمعيات والنقابات، باعتبارها عناصر مترابطة تشكل الأساس لأى إصلاح سياسى واجتماعى حقيقى. غير أن التطبيق ما زال متعثرًا، فتشكل الحكومة لجنة لتطوير الإعلام، لكنها لا تدرك أن حرية الكلمة ليست حقًا منفصلًا عن بقية الحريات، ولا ترتبط بالصحافة فقط، بل هى نقطة الانطلاق المحورية التى تمكّن المواطنين والمجتمع المدنى والأحزاب من ممارسة دورهم بشكل فعلى.

اتفق المشاركون فى الحوار الوطنى على ضرورة البدء فى إقرار قانون ينظم المحليات والشروع فى انتخابات المجالس المحلية، وهى المحطة الأولى لإفراز سياسيين حقيقيين وبناء كوادر شعبية قادرة على ممارسة العمل السياسى بشكل مؤثر، بدلًا من الفراغ الذى تعانيه مصر منذ إلغاء المجالس المحلية عام 2008. وأثر هذا الغياب سلبًا على بناء الكوادر السياسية، وزاد العبء على نواب البرلمان، الذين يضطرون إلى أداء أدوار كانت من المفترض أن تُعالج على مستوى المحليات.

بينما ما زال النظام الانتخابى محور الخلاف بين التيارات السياسية، لكن بعد تجربتنا مع البرلمانيين السابقين، والثالث الجارى تشكيله الآن بنظامى القوائم المطلقة والفردى، ووصولنا إلى هذه الحالة، حان الوقت لإعادة النظر فى هذا النظام، ربما الأفضل الجمع بين الأنظمة الثلاثة: المطلق، النسبى، والفردى، بما يضمن تمثيلًا عادلًا، ويعزز  فاعلية البرلمان.

فعلوا توصيات الحوار الوطنى، الإصلاح السياسى لم يعد رفاهية أو خيارًا ثانويًا؛ إنه اليوم ضرورة حقيقية لضمان الاستقرار، واستعادة الثقة فى مؤسسات الدولة، وبناء مستقبل أكثر عدالة لكل المواطنين.

 

كاتبة وصحفية متخصصة فى الشأن السياسى والبرلمانى

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة