إشكالية التكيف مع التغير المناخى

الأحد 14 ديسمبر 2025 - 8:25 م

التغير المناخى لم يجد بعد الاهتمام العام الكافى الذى يتطلبه هذا التحدى فى مصر. هذا مجرد إحساسٍ خاص فى ظل غياب معرفتى باستطلاع رأى موثوق به فى هذا المجال فى مصر يشرح لنا النِّسب والفئات التى بدأت تهتم بهذا التحدى المصيرى. لكن فى الدوائر المهتمة، فإن التكيف مع التغير المناخى هو غالبًا ما يتبادر إلى الذهن عندما يدور النقاش حوله. ويشير هذا إلى إعطاء أولوية لهذا المفهوم، وهو ما يظهر مثلًا عند مراجعة موقف مصر الرسمى كما جاء فى الصفحة الرسمية لوزارة الخارجية، والتى تتولى التفاوض باسم مصر فى المحافل الدولية الخاصة بالتغير المناخى، حيث وضعت الأولوية الأولى:

«التكيف مع تغير المناخ: تنسيق الجهود لتوجيه التمويل الدولى اللازم للتمكن من التكيف مع آثار تغير المناخ مثل ارتفاع مستوى سطح البحر، والتصحر، ونقص المياه، وتغير درجات الحرارة (والتى تقع مسئولياتها التاريخية على عاتق الدول الصناعية الكبرى المتسببة فى حدوث التغيرات المناخية الجارية)».

ضمن أولويات أخرى شملت حماية البيئة وتعزيز التعاون الدولى فى مجالات البيئة. ويتم التأكيد على ذلك مرة أخرى فى رؤية مصر لمستقبل العمل المناخى، حيث يتفرد ذكر التكيف مع تغير المناخ. وبناءً على ذلك، «تطالب مصر الدول المتقدمة بتقديم تمويل كافٍ لمساعدة الدول النامية على التكيف مع تغير المناخ»، كما «تدعو مصر إلى زيادة الاستثمارات فى مشروعات التكيف مع تغير المناخ فى الدول النامية».

استراتيجية التغير المناخى حتى عام ٢٠٥٠، التى أطلقتها مصر فى عام ٢٠٢٢ قبيل انعقاد مؤتمر الأطراف بشرم الشيخ، أعطت بدورها أولوية واضحة للتكيف مع التغير المناخى فى إطار المحاور أو الأهداف الخمسة الرئيسية، حيث ينص الهدف الثانى على بناء المرونة والقدرة على التكيف مع تغير المناخ وتخفيف الآثار السلبية المرتبطة به.

فى إطار النقاش حول العدالة المناخية، دافع العديد من الباحثين والناشطين فى مجال التغير المناخى عن ضرورة إعطاء الأولوية للتكيف فى الدول النامية، ومن بينها مصر، لأن تلك الدول لم تسهم إلا بنسبة ضئيلة فى كارثة التغير المناخى. وبالرغم من أننى أتفهم تمامًا دوافع الموقف الرسمى وما جاء فى الاستراتيجية، وحتى فى نقاش الباحثين، إلا أننى أعتقد أن السؤال الأهم: هل يمكن تطوير موقف أكثر مراعاة لحالة الطوارئ المناخية، وفى ذات الوقت يعمل على حماية ودعم ازدهار حياة المواطنات والمواطنين؟

• • •

دعونا نبدأ بمراجعة ماهية «التكيف مع التغير المناخى» كما عرفته اللجنة الدولية المختصة بالتغير المناخى. وكما جاء فى تناول اللجنة لهذا المصطلح، فإنه فى علوم المناخ يشير «التكيف» إلى عدد من الأفعال التى تساعد على تقليل الأخطار المصاحبة للتغير المناخى، مثل الأخطار التى يتسبب بها ارتفاع درجات الحرارة، والزيادات المتكررة، والحوادث المتطرفة كالجفاف والفيضانات. وينص معجم اللجنة الدولية فى الدورة السادسة على أن «التكيف فى المنظومات الإنسانية هو عملية توافق مع المناخ الحادث أو المتوقع وتأثيراته، حتى يمكن تعديل الضرر أو الاستفادة من فرص مواتية. (أما) فى المنظومات الطبيعية، (فإن) التكيف هو عملية توافق مع المناخ الحقيقى وآثاره، والتدخلات الإنسانية يمكنها دعم التوافق مع المناخ المتوقع وآثاره. و(لكن) لهذا التكيف حدوده»، «فنحن نمتلك فقط مجموعة محدودة من الإمكانات لتخفيض الأخطار المناخية، وعددها وفعاليتها تقل مع كل جزء ضئيل من الدفء (ارتفاع الحرارة) الإضافى».

هناك اعتقاد بين عدد من الدارسين والمهتمين بقضايا المناخ أن أفضل طريقة للتكيف مع التغير المناخى هى العمل الجاد لمواجهة أسبابه، أو ما يُعرف بـ«التخفيف». ويتفق هذا مع كون التغير المناخى أحد التجليات المهمة للمنظومة المعقدة للغلاف الحيوى وما يحتويه، ولأن التعامل مع تلك المنظومة المعقدة بفاعلية، كما استقر الآن بين دارسى نظرية التعقيد، لا يمكن أن يكون ناجحًا إذا تم التركيز فقط على الأعراض وتجنب التعامل مع الأسباب الجذرية. ويُستخدم نموذج جبل الثلج، الذى يظهر فى الغالب الجزء الضئيل منه فوق سطح الماء بينما يختفى معظمه تحت الماء، لتوضيح تلك الحقيقة.

ولكن ما التخفيف؟ عرّفت اللجنة الدولية للتغير المناخى «التخفيف من التغير المناخى» بأنه يشير إلى الأنشطة والأفعال التى تحد من انبعاثات غازات الدفيئة (الغازات الرئيسية المسببة للاحتباس الحرارى) من الدخول إلى الغلاف الجوى، وتخفيض مستوى تلك الغازات فى الغلاف الجوى. ويشمل التخفيف تقليل الانبعاثات من إنتاج واستهلاك الطاقة، وخاصة تلك التى تستخدم الوقود الأحفورى. والهدف النهائى للتخفيف هو الحفاظ على المحيط الحيوى الذى يدعم الحضارة البشرية وخدمات المنظومات الإيكولوجية المركبة التى تحيط بنا وتدعمنا.

الفهم الشائع الناتج من هذا التعريف يشير إلى الاحتياج لتقنيات عالية التكلفة لا تستطيع مصر والدول النامية توفير أغلبها، ولكن تطور معرفتنا بما يُسمى بالحلول القائمة على الطبيعة يوفر بديلًا ممكنًا لنا، ذا تكلفة منخفضة، والأهم أنه غالبًا ما يجمع بين التكيف والتخفيف معًا إذا أُحسن دراسته وتطبيقه. وتشير المنظمة الدولية لصون الطبيعة إلى أن ما يقارب ٣٧٪ من الجهد المطلوب للتخفيف من التغير المناخى يمكن تحقيقه من خلال تلك الحلول، والتى تتضمن وقف تدهور البيئات الطبيعية من خلال السيطرة على مصادر التلوث المختلفة للهواء والماء والتربة، واستعادة التنوع الطبيعى من خلال استعادة الحياة البرية المحلية.

 يمكن مثلًا تصور المناطق الخضراء فى الساحل الشمالى، والتى تنتشر بها النباتات الغازية المستهلكة للمياه، وقد تم السيطرة على التلوث بها وإعادة زراعة النباتات البرية المحلية، فتتحسن التربة كما يقل استخدام المياه، بالإضافة إلى الخدمات العديدة الأخرى التى تقدمها تلك النباتات مثل امتصاص ثانى أكسيد الكربون ودعم التنوع الطبيعى من خلال إعادة اجتذاب الكائنات مثل الفراشات ودعم الطيور المهاجرة وغير ذلك. ويتطلب ذلك بالطبع أبحاثًا وتطوير معرفة تدعم المراكز البحثية القائمة فعلًا، مما يدعم البدء الفورى بالتنفيذ، على أن يتم بالتوازى العمل على تطوير المزيد من القدرات العلمية بما يدعم جوانب أخرى فى حياتنا وسعينا كمجتمع للتطور والازدهار. كما تتطلب تلك الحلول، التى من طبيعتها أنها لامركزية، طرقًا أخرى لإدارة المناطق المحلية فى مصر تعتمد على كفاءات وقدرات ومهارات محلية.

يضعنا هذا فى قلب ما يُسمى «تنمية المرونة المناخية»، والتى عرفتها اللجنة الدولية بأنها «تضم استراتيجيات للتكيف مع التغير المناخى مع الأعمال التى تخفض من غازات الصوبات الزجاجية، بما ينتج عنه تحسينات للطبيعة ورفاهية للناس». وفى الدول النامية، وخاصة فى المناطق الأكثر عرضة للتغير المناخى مثل المناطق الساحلية لدينا مثلًا، فإن التأثيرات والمخاطر المرتبطة بالمناخ يمكن أن تفاقم نقاط الضعف وعدم الإنصاف، مما يقوض الجهود المبذولة للوصول إلى التنمية المستدامة، وخاصة للمجتمعات المهمشة. ولكن كل دولة، طبقًا لما لديها من قدرات وفرص للمرونة المناخية، ستتبع مسارها الخاص.

• • •

بالرغم من النجاحات التى بدأت فى مؤتمر المناخ فى مصر بتبنى القرار الخاص بالأضرار والخسائر، وأيضًا القرار الأخير فى مؤتمر البرازيل المنعقد منذ أيام قليلة بمضاعفة تمويل التكيف ثلاث مرات، إلا أننا أيضًا نعرف جيدًا مصير التعهدات السابقة بتمويل العمل المناخى، وكيف لم يتم تلبية الجزء الأكبر منها، وهو ما لا يدعم التفاؤل بحدوث تحول فى الالتزام بتلك التعهدات من قبل الدول المتقدمة، خاصة فى ظل التوترات السياسية العالمية الحالية. وتبقى الإشكالية الكبرى فى كيفية التعامل مع التغير المناخى لما يمثله من تهديد وجودى لنا ولجميع الأمم على وجه الأرض، ولا يمكن بحال تجاهله.

حتى وإن تفهمنا البعد السياسى للموقف الرسمى، إلا أن تبعاته، وخاصة عندما يُرجع إليه كإطار مرجعى فى العديد من الجهود المحلية للتعامل مع التغير المناخى، تمثل إشكالية وتحديًا لا يجب تجاهله، خاصة لأن تلك الجهود تستثمر الكثير من الجهد والعمل والمال بهدف الخروج بأطر حاكمة للأنشطة والتدخلات القائمة والمستقبلية.

 لا مفر، فيما أعتقد، من تطوير نقاش جاد حول هذا الموقف بما يسمح لنا بالتعامل مع التحديات الكبرى التى تواجهنا بصورة أكثر عملية وأكثر إبداعًا، لأن تلك المواجهة هى الجديرة باستنهاض الهمم وتحفيز الدراسات والأبحاث، وإيجاد بيئة داعمة ومواتية للابتكار تمكننا من المساهمة الفعالة فى مساعدة مجتمعاتنا، وخاصة تلك الأكثر عرضة لمخاطر التغير المناخى. وفى هذا النقاش، لا يجب استبعاد الجمهور العام، ليس فقط لأن معظم تحديات الحياة اليومية التى يواجهونها مرتبطة بتلك التحديات، ولكن لأنه هو الداعم الأساسى لاستدامة الجهود ولكى تؤتى ثمارها.

أستاذ العمارة بجامعة القاهرة

 

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة