زياد الرحبانى وموسيقى الرماد

الثلاثاء 9 ديسمبر 2025 - 6:30 م

 فى عام 1989 أصدر الفنان على الحجار ألبومه الغنائى المميز «أنا كنت عيدِك». ورغم تميز أغلب أغنيات الألبوم، فإن أغنية «لما الشتا يدق البيبان» للشاعر الكبير إبراهيم عبدالفتاح كانت هى الدافع الذى قادنا للتعرف إلى صاحبها، الذى كان ولا يزال منتظمًا فى جلسته اليومية على مقهى زهرة البستان.

وقبل معظم شعراء جيله أصبح الشاعر نجمًا ساطعًا بحسابات تلك الأيام، تتسابق إليه الأصوات الحلوة (على الحجار، حنان ماضى، مدحت صالح، ورياض الهمشرى) لتغنى أغنياته، التى كانت فى جوهرها قصائد نجح فى الحفاظ على روح الشعر فيها، وتأكيد حضوره لا نفيه، كما يفعل الذين اعتنوا بالحرفة أكثر من اعتنائهم بالمعنى.

ورغم النجومية التى بلغها بسرعة آنذاك، احتفظت روحه بعذوبتها؛ وظلت خفة دمه أقصر الطرق إلى قلبه. أما الجلوس إلى جواره وهو يلعب «عشرة طاولة» فقد يمتد يومًا كاملًا، أو يأتى أقصر من زمن سحب نفس من الشيشة التى لا تفارقه.

مرّت الأيام أسرع مما توقع أحد، ولا يزال أصدقاء الشاعر يذكرون جيدًا المعارك التى خاضها مع أسماء كبيرة لحماية «قيثارته» وللحفاظ على حدود الأرض التى ناضل كى تبقى حرة مستقلة، وواجه -من كرسى المقهى- حملات التشويه والحصار التى استهدفت تجربته وهو فى قمة النجاح.

وسط زحام الأصوات الشعرية المنتمية لأجيال مختلفة، احتفظت أغنياته بطعم آخر، جاء بفضل قدرته على تنمية عناصر السرد الدرامى فيها، وحرصه على ترصيعها بمفارقات يصعب الإفلات من شجنها وشعورها الطاغى بالهشاشة.

يمكن التدليل على ذلك ببساطة بالعودة إلى أغنيات مثل: «عصفور وطاير» مع الحجار، أو «بفرد قلوعى لحد جرحك يا صديق» مع مدحت صالح، أو «شباك قديم» لحنان ماضى.

فى تلك الأغنيات وغيرها، لم يكن إبراهيم بعيدًا عمّا ينجزه مجايلوه فى شعر الفصحى؛ فجميع أغنياته، مثل قصائدهم، تحفل بالتفاصيل اليومية، وتؤرّخ للحظات التى تخبو مثل ضوء شمعة، وتشيع فيها نبرة ذاتية لا تخفى على أحد. لذلك لم يكن غريبًا أن يحرص الشاعر فيما بعد على نشر قصائد فصيحة وثيقة الصلة بالعالم الذى سعى إلى تثبيت أركانه فى كتاباته بالعامية.

ولأننى أحببت الشاعر من خلال أغنياته، فقد حرصت على قراءة كتابه الجديد «كيف إنت.. زياد الرحباني» الصادر عن دار بتانة مؤخرًا. وهو كتاب يستكمل شغفًا قديمًا لديه، يقوم على كتابة تعليقات فى صورة مقالات حول الأغنيات التى يسمعها، إلا أنه خشى أن تستهلكه الصحافة وتسرق منه الشاعر، فآثر الهرب.

يصعب تصنيف كتاب «كيف إنت.. زياد الرحبانى» أو وضعه ضمن الأطر التقليدية، لكن أجمل ما فيه أنه يفسّر تجربة إبراهيم عبد الفتاح وطموحه فى خلق أغنية مصرية جديدة ذات ملامح مختلفة.

المؤكد أن الشاعر وجد فى تجربة زياد التجسيد الحى لهذا الطموح، ولكن استنادًا إلى تجربة أخرى ولدت فى سياق مختلف، ارتبط بمن يولد بين الرحابنة ويؤسس لتجربة تتشكل فى ظل الحرب الأهلية اللبنانية بكل ما فيها من تعقيد.

يحبط هذا الكتاب الجميل والمختلف توقعات من انتظروه كتابًا فى النقد الموسيقى أو تأمّل ظاهرة متمردة متفردة فى تاريخنا الفنى، لكنه يسعد من تابعوا موهبة إبراهيم عبد الفتاح وانتظروه على ناصية الحلم.

الكتاب ــــ كما يقول مؤلفه ـــــ «ليس سيرة ولا مجموعة حوارات عابرة، وإنما محاولة للإمساك بالهواء الذى مرّ بين آل الرحبانى وهواء بيروت فى نصف قرن. ستجد فيروز، لا كأيقونة على المسرح، بل كأم وامرأة تصغى أكثر مما تتكلم، وستجد زيادًا بمزاجه الذى يخلط السخرية بالحكمة، يطلّ فى الجملة الأخيرة ليترك السؤال مفتوحًا».

أحببت كتاب (كيفك إنت) لأنه عابر للأنواع الأدبية، يستجيب فى محتواه المتفرد لأكثر من تحدٍّ، ويقع بين التأمل الذهنى الخالص والشعرية القائمة على القنص واستثمار المفارقة.

يحافظ الكتاب أيضا على حضور صوت الشاعر ضمن كورس كبير يقف على مسرح فى مواجهة زياد الذى يلعب دور البطولة، ولا يخشى مساءلته ومراجعة تجاربه واستعادة سيرته لا بغرض كتابتها كسيرة غيرية وإنما للنظر إلى ومضات خاطفة منها ظلت تنطوى على لمعة فريدة، سواء تلك التى قامت على تعزيز حضوره كفرد مقاوم، أو التى استندت إلى إرث الرحابنة عبر سعيها إلى «تأنيث فيروز» وتحريرها من القداسة، وجعلها تغنى وهى عائدة من الشرفة إلى المطبخ، أو من السماء إلى السرير.

تذكّر لغة الكتاب بما كان يكتبه شاعران كبيران هما محمد الماغوط وأنسى الحاج فى الصحافة حول فيروز: لغة مشدودة وساطعة، قائمة بذاتها لا تثقلها البلاغة، ولا تخسر شعريتها استجابة لقارئ متعجّل.

يسعى الكتاب بطريقته إلى «أنسنة الأشياء» واستنطاقها، وإعادة ترتيب العالم؛ فالأشياء التى نراها لديها ما تنطق به أيضًا، لكنها تبقى دائمًا بحاجة إلى لمسة شاعر يستطيع أن يمسك بـ«موسيقى الرماد».

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة