لماذا أصبح عمل الأستاذ الجامعى مشكلة؟
هل من حل لتلك المشكلة؟
ما مستقبل مهنة الأستاذ الجامعى؟
فى بداية هذا الفصل الدراسى الجامعى كتبت مقالا فى هذا المكان (بتاريخ 5 سبتمبر 2025) بعنوان «تقييم الطالب فى عصر الذكاء الاصطناعى.. مشكلة صعبة جدا». فى ذاك المقال أعربت عن تخوفى من صعوبة تقييم الطالب عندما يستخدم الذكاء الاصطناعى فى أبحاثه ودراساته. وفى أثناء الفصل الدراسى (بتاريخ 3 أكتوبر 2025) نشرت مقالا بعنوان «الأستاذ أم الذكاء الاصطناعى.. من يحصل على ثقة الطالب؟» أناقش فيه تآكل سلطة الأستاذ الجامعى فيما يتعلق بكونه مصدرا للمعلومة بالنسبة للطلاب. أما وأننا على أعتاب نهاية هذا الفصل الدراسى، فأود أن أشارك القارئ الكريم بعض الأفكار عن مهنة الأستاذ الجامعى ككل، وليس فقط التدريس فى هذا العصر الذى أصبحت التكنولوجيا تسيطر فيه على عقول أغلب الجيل الجديد، أى الطلاب.
الأستاذ الجامعى له ثلاث مهام: التدريس، والبحث العلمى، والخدمات الأكاديمية المتعلقة بالعمل فى لجان الترقية أو تحكيم الأبحاث وما شابه. كل واحدة من تلك المهام ستتأثر بالتكنولوجيا الحديثة وبالأخص الذكاء الاصطناعى، وهذا ما نريد أن نتحدث عنه فى مقال اليوم.
لكن قبل أن نشرع فى تحليل تأثير التكنولوجيا على وظيفة الأستاذ الجامعى، يجب أولا أن نعرف: هل هذا التأثير إيجابى أم سلبى؟ أى هل هو تهديد لتلك الوظيفة؟ أم هو تغيير للأفضل؟
• من ناحية، فإن التكنولوجيا تشكل تهديدا لوظيفة الأستاذ الجامعى إذا لم تقم الجامعة ولم يقم الأستاذ بتطوير أنفسهم ومناقشة أفضل السبل للاستفادة من تلك التكنولوجيا.
• ومن ناحية أخرى، فإنها فرصة لمن يستطيع أن يغتنمها، وهنا المعضلة. من يقود اغتنام الفرصة؟ الشركات عابرة القارات الهادفة فقط للربح؟ أم خبراء التعليم؟ الفريقان سيحاولان اغتنام الفرصة، لكن من يقود القاطرة هو من سيشكل شكل التعليم العالى فى المستقبل: هل سيبنى التعليم الجامعى الشخصيات والعقول؟ أم سيبنى فقط المهارات التى تؤهل الطالب للحصول على وظيفة مرموقة أو بناء شركة تجلب الكثير من الأرباح على حساب أى شىء آخر؟
إذًا التكنولوجيا هى تهديد وفرصة، ونريد أن نناقش كلا منهما.
• • •

كيف تهدد التكنولوجيا وظيفة الأستاذ الجامعى؟
هناك عدة معضلات تهدد المهام الثلاث للأستاذ الجامعى. لنبدأ بالمهمة الأولى: التدريس:
• لم يعد الأستاذ هو المصدر الأساسى للمعلومات عند الطلاب؛ برمجيات الذكاء الاصطناعى أصبحت تقوم بهذا الدور، بل وتقوم بشرح المعلومة بالطريقة والسرعة اللتين تلائمان الطالب، بدون ملل ولا كلل.
• الطلاب أكثر كفاءة ومعرفة بالتكنولوجيا من أغلب الأساتذة؛ لأن الطالب نشأ فى أحضان تلك التكنولوجيا، بينما أغلب الأساتذة، خاصة الأجيال الأكبر، لم يتعاملوا معها إلا فى مرحلة متأخرة من حياتهم.
• التعامل مع الجيل الحالى والأجيال القادمة من الطلاب أكثر صعوبة من الأجيال السابقة؛ لأن الجيل الحالى لا يقبل النصيحة المباشرة، وتركيزه أقل، ويخلط بين سهولة الحصول على المعلومة وبين الثقافة، فتجد أغلبهم لا يهتم بالثقافة (اللهم إلا ثقافة الترفيه) ويعتمد على سهولة الحصول على المعلومة عند الحاجة.
• الضغط الاقتصادى الكبير والعصر الرأسمالى القاسى الذى نعيشه جعلا هم أغلب الأسر أن يحصل أبناؤهم على مرتب مرتفع ووظيفة مرموقة، وبالتالى يدفعونهم للمضى فى الطريق الذى يقود إلى ذلك، وحتما هذا الطريق لا يحتوى على الثقافة أو فلسفة العلوم أو أغلب العلوم الإنسانية.
• نحن فى عصر يتقدم فيه العلم بخطى سريعة، وبالتالى على الأستاذ تحديث مناهجه الدراسية باستمرار، وعليه أن يفعل ذلك وسط مهامه الأخرى والضغوط الاقتصادية، إلخ.
أما إذا نظرنا إلى البحث العلمى فسنجد الآتى:
• برمجيات الذكاء الاصطناعى الحالية تستطيع مراجعة كل الأبحاث فى تخصص ما منذ بدأ هذا التخصص وحتى الأمس، وتلخيصها، وإيجاد نقاط القوة والضعف فى كل منها، وإعداد تقرير عما يمكن عمله لعلاج نقاط الضعف عن طريق المساعدة فى توليد أفكار جديدة، والقيام بتجارب لقياس كفاءة تلك الأفكار، وتحليل نتائج تلك التجارب، ثم كتابة البحث أو المساعدة فى ذلك. فماذا بقى للأستاذ الجامعى لعمله سوى الإشراف على تلك البرمجيات حتى يمكن كشف الأخطاء؟ هذا جيل من البرمجيات ما زال يرتكب بعض الأخطاء، فماذا عن الأجيال القادمة من تلك البرمجيات؟
• المنافسة أصبحت شديدة جدا عما كانت عليه فى الماضى، وأصبح النشر العلمى الكثيف هو المطلوب، مما أدى إلى وجود بعض الممارسات غير الأخلاقية التى تبحث عن النشر بأى وسيلة.
أما إذا نظرنا إلى الخدمات الأكاديمية:
• برمجيات الذكاء الاصطناعى يمكنها تحكيم الأبحاث العلمية بجودة معقولة؛ ليست بنفس جودة الباحث المتميز، لكن تلك البرمجيات فى تحسن مستمر.
• برمجيات الذكاء الاصطناعى يمكنها حضور الاجتماعات وتلخيص ما قيل، بل ومحاولة الإجابة عن الأسئلة التى أُثيرت فى تلك الاجتماعات.
إذا أردنا تلخيص كل ما قيل أعلاه فى جملة واحدة: إذا استمر الأستاذ الجامعى فى القيام بوظيفته بنفس الطريقة التى تعود عليها فى العقود الماضية، فإنه سيواجه تهديدا وجوديا حقيقيا فى المستقبل القريب.
• • •

مستقبل مهنة الأستاذ الجامعى
هناك أشياء لا يستطيع الذكاء الاصطناعى أو أية تكنولوجيا أخرى القيام بها، وهذه الأشياء هى ما يجب أن يركز عليه الأستاذ فى مهامه الثلاث التى ذكرناها:
• التركيز على فلسفة التخصصات: أى لماذا المعلومات فى تخصص معين جاءت بالطريقة التى هى عليه؟ ما أهمية هذا التخصص؟ كيف يؤثر ويتأثر بالتخصصات الأخرى؟ ما مستقبل هذا التخصص؟ إلخ. لاحِظ أن درجة الدكتوراه تسمى (PhD) أى Doctor of Philosophy، وتعنى دكتوراه الفلسفة فى تخصص معين. نريد إعادة الفلسفة لجميع التخصصات، العلمية منها والإنسانية.
• على الأستاذ الجامعى أيضا التركيز على بناء شخصية الطالب ومنظومته الأخلاقية وتقوية طريق تفكيره ومنهجيته؛ التفكير النقدى من أهم المهارات فى عصرنا.
• البحث العلمى يعتمد على فن السؤال؛ السؤال الصحيح الدقيق هو ما يدفع عجلة العلم والتكنولوجيا، وإجادة فن السؤال وتعليمه لصغار الباحثين من أهم دعائم البحث العلمى.
على الأستاذ الجامعى دراسة كيفية «التعاون» مع التكنولوجيا، أى معرفة نقاط قوتها وضعفها حتى يمكنه الاستفادة منها أقصى استفادة. هذه النقطة بالذات ما زالت لا تحمل الجواب النهائى عن كيفية الاستفادة من التكنولوجيا. استمرار المناقشات وتبادل المعلومات حول تلك النقطة مهم جدا الآن.
• • •

أغلب المهن ستتغير نتيجة التطور التكنولوجى، ومنها وظيفة الأستاذ الجامعى، لكن مهنة الأستاذ الجامعى هى مهنة بناء العقول وإنتاج المعرفة، فيجب أن ننتبه لها جيدا.