سقوط السردية الصهيونية

الإثنين 1 ديسمبر 2025 - 6:40 م

رغم امتداد جذوره المعرفية فى أعماق الخطاب الأدبى العربى منذ قرون خلت، يطيب لمفكرين كثر إرجاع التأصيل السوسيولوجى لمصطلح «السردية» إلى الفيلسوف الفرنسى تزفيتان تودوروف عام 1969. ذلك الذى ارتآه يصف الإطار العام، أو الرواية، التى تعكس رؤية الأمة لقضية ما، فيما يعتمد عليها صانع القرار عند صياغة مقاربته تجاهها. ويكاد يتوافق الاختصاصيون على أن من يمتلك سردية متماسكة ومستدامة يتحكم فى الذاكرة التاريخية ويجيد بلورة الرؤية المستقبلية.

 


وسط إرهاصات إقحامها فى قلب العالم العربى، أسست إسرائيل سرديتها الوجودية على فرية «الضحية الخالدة»، التى نجت من المحرقة، لتنشئ كيانا يعصمها من غدر التاريخ. واستندت فى ذلك على دعائم ثلاث: الخوف، البراءة، والضرورة. خوف من الإبادة، بوصفه مبررا دائما للعنف، وبراءة أخلاقية للضحية، بوصفها حصانة ضد النقد، وضرورة القوة، بوصفها شرطا للبقاء. لكن الدعائم، التى ظلت راسخة دهرا، بدأت تتهاوى تباعا تحت وطأة الوعى العالمى المتحرر من التابوهات الزائفة.
فلقد أثبتت المأساة الفلسطينية الممتدة منذ النكبة حتى اليوم أن الضحية، التى لم تتصالح مع جراحها، تتحول بمرور الوقت إلى جلاد. فإبان العدوان الأخير على غزة، ما عاد العالم يرقب الصراع بعيون صهيونية تختزله فى «حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها». ولأول مرة، لم تعد القصة تُروى من تل أبيب وواشنطن، بل من ويلات أطلال البنايات، نواح النساء الثكالى، وأنين الأطفال والشيوخ المجوعين والمشردين.
هنالك حدث التحول العميق؛ إذ لم تعد إسرائيل رمزا للنجاة، بل نموذجا للغطرسة والعربدة. ذلك أن الذين رفعوا شعار «عدم تكرار الهولوكوست» باتوا يمارسون، باسم الخوف من تكراره، عنفا يعيد إنتاج المأساة فى صور مغايرة أشد وحشية ودموية. الأمر الذى أسماه الفيلسوف السلوفينى سلافوى جيجك «انكشاف البنية الخيالية عبر المشهدية المفرطة للعنف». فالخطاب الذى اختلق صورة إسرائيل بوصفها ضحية عقلانية وعادلة غدا عاجزا عن التهرب من الحقيقة المفجعة التى تفيض بها جرائم الإبادة بغزة.
فبفضل الإعلام الجديد، لم يعد الوعى الجماهيرى أسير دعايات الفضائيات والصحف الغربية الكبرى؛ إذ أصبح «المواطن الرقمى» شاهدا وحكما فى آن. وهكذا، تهاوت هيمنة الرواية الإسرائيلية على وقع مأساة فلسطينية يستعصى إنكارها. فلقد تحرر وعى الإنسان من التضليل الإعلامى والأخلاقى الذى مارسته المؤسسات الإعلامية والسياسية الغربية الموالية لإسرائيل ردحا من الزمن.
للمرة الأولى منذ قرن، بدأت النخب الفكرية الغربية تتحدث عن إسرائيل، لا بوصفها حالة استثنائية، بل امتدادا لمنظومة استعمارية متجددة. فلقد تخطى الأمر مجرد نقد سياساتها؛ ليلامس قدحا فى الأساس الأخلاقى للفكرة الصهيونية ذاتها، القائم على أسطورة «الخلاص الجمعى عبر إقصاء الآخر». وإبان الهجوم الإسرائيلى على إيران فى يونيو الماضى، قال المستشار الألمانى: «إن إسرائيل تقوم بالعمل القذر من أجل الغرب بأسره». وهو ما أكده نتنياهو فى خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعدها بأشهر ثلاثة، حينما أبدى امتنانه للدعم الذى يغدقه قادة العالم على إسرائيل، التى لا تخوض حربها وحدها، بل تضطلع بالعمل القذر نيابة عن العالم المتحضر قاطبة.
ومقابل ذلك، طالب وزراء اليمين الدينى فى حكومته الغرب بإطلاق يد إسرائيل فى ربوع الإقليم. وهكذا، لم تفضح تلك الحروب إسرائيل وحدها، بل كشفت خواء الخطاب الأخلاقى العالمى. فبينما يدين الغرب حرب روسيا فى أوكرانيا بذريعة انتهاك القانون الدولى، يكافئ العربدة الإسرائيلية فى الشرق الأوسط حماية لمصالحه. وهو ما يسميه نعوم تشومسكى «النفاق المنظم»، إذ يغدو الدفاع عن الحرية والعدالة مشروطا بشكل العلاقة مع المعتدى، أو طبيعة الجغرافيا، ولون الضحية.
بخصوص فرية كون إسرائيل الديمقراطية الوحيدة فى محيطها، فقد أورد الرئيس الأسبق لجهاز الموساد، تامير باردو، فى مقال بصحيفة «يديعوت أحرونوت»، مؤخرًا، بعنوان «المتطرفون هنا يريدون حرب يأجوج ومأجوج»، أن كل يوم يمر يقرب الإسرائيليين من نهاية الحلم الصهيونى. وهو بذلك يشاطر كثيرين منهم مخاوفهم من أن يفضى تدهور ديمقراطيتهم وتكرار سياساتهم العدوانية إلى انفضاض حلفائهم الغربيين عنهم.
فلطالما شكل شعور الغرب بالتلاقح الحضارى مع إسرائيل أحد أهم بواعث التقارب بين الطرفين. فالعالم الذى استسلم طويلا لأسطورة «الديمقراطية الوحيدة فى الشرق الأوسط» صار يوقن أنها لم تكن سوى «ريتاجة» قانونية توارى نظاما عنصريا يدمن التوسع والعدوان. وأن القوة التى ادعت حماية الحياة أمست تحرس مشروعا استعماريا يعتاش على إبادة الآخر. لقد تراءى للرأى العام العالمى أن إسرائيل لم تعد «حصن الديمقراطية»، بقدر ما صارت مرآة تعكس عيوب المشروع الغربى نفسه، لا سيما نزعة تبرير العنف حين يخدم المصالح، وادعاء التفوق الأخلاقى لتبرير السيطرة.
كما تحولت إسرائيل فى المخيال العالمى من رمز للنجاة إلى مرآة للهيمنة، وأداة للإبادة الجماعية، ومن نموذج للحداثة الديمقراطية إلى مختبر للعنف الممنهج الذى يتغول بذرائع أمنية.
فى كتابه المعنون «بالأحبايل تصنع لك حربا»، الصادر فى نوفمبر 2025، يعترف المدير السابق للموساد، يوسى كوهين، بنجاح العدوان الحالى على غزة فى توجيه ضربة قاصمة للسردية الصهيونية. واستشهد بانتشار 54 مقطعًا تسجيليا على «تيك توك» يؤيد الرواية الفلسطينية، مقابل مقطع واحد فقط داعم للسردية الإسرائيلية. وألقى باللائمة على حكومة بلاده جراء عدم تكريس ما يكفى من الجهد لتسويق سياساتها وتبرير تحركاتها العسكرية. وبينما يتجاهل انضمام تجمعات يهودية حاشدة إلى حملات الاحتجاج على خروقات إسرائيل، يحمل كوهين الحكومة اليمينية المتطرفة مسئولية الفشل فى تأبيد جاذبية وتأثير تلك السردية. فبجريرة العجز عن تطويرها لتعزيز حضورها واستدامة تأثيرها، أصبح العالم برأيه أكثر قابلية للتأثر بالدعايات والروايات المضادة.
يعتقد جاك أتالى، مستشار الرئيس الفرنسى الأسبق فرنسوا ميتران، أن الصهيونية فى سبيلها إلى الانتحار. واستشهد بأطروحة المؤرخة باربرا توتشمان حول «مسيرة الحماقة»، حيث تمتلك إسرائيل أسباب القوة كافة: المال، التكنولوجيا، الموارد، التفوق العسكري، والدعم الغربى الشامل والمستدام، لكنها رغم ذلك تصارع إفلاسا استراتيجيا وأخلاقيا محققا.
فبموازاة تشوه صورتها عالميا، طالبت «مبادرة المواطنين الأوروبيين»، قبل أيام، المفوضية الأوروبية بتعليق اتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع إسرائيل بسبب الجرائم التى اقترفتها بحق الفلسطينيين. بالتزامن، قدم نواب ديمقراطيون بمجلس الشيوخ الأمريكى عريضة لوزارة الخارجية يطالبون فيها بتحقيق عاجل بشأن ما أورده تقرير هيئة رقابية حكومية حول مئات الانتهاكات التى ارتكبها جيش الاحتلال فى غزة، محذرين من أى تقاعس يقوض القوانين التى تحظر تقديم الدعم الأمريكى للجيوش الأجنبية المتورطة بهكذا خروقات.
فى مقال نشرته بصحيفة «جيروزاليم بوست» قبل قليل، حذرت الدبلوماسية الإسرائيلية توفاهرتزل من تصاعد مستوى العداء لإسرائيل بين أطياف اليمين الأمريكى. فلقد أظهرت نتائج استطلاع رأى أجرته مؤسسة BIG DATA POLL على مستوى الولايات المتحدة انخفاض التعاطف مع إسرائيل مقابل فلسطين بين شباب الحزب الجمهورى وأنصار حركة «أمريكا أولا» بشكل ملحوظ خلال العامين الماضيين.
وقد توقفت هرتزل عند محتوى إجابات جيه دى فانس، نائب الرئيس ترامب، على تساؤلات شباب من حركة «اجعل أمريكا عظيمة مجددا»، والتى تضمنت انتقادات حادة لإسرائيل ومطالبات بتجميد الدعم الأمريكى لها، الأمر الذى اعتبرته هرتزل مسوغا لاتهام اليهود الأمريكيين بازدواجية الولاء للولايات المتحدة وإسرائيل فى آن، بما يؤسس لأخطر الصور الذهنية النمطية المعادية للسامية. ونددت بما اعتبرته تقاعسا من فانس عن التصدى لسؤال يتهم اليهود باضطهاد المسيحيين، متذرعا باعتبار الأمر خلافا لاهوتيا عابرا وليس خطابا تحريضيا مروعا. وأعربت عن قلقها إزاء استضافة الإعلامى الأمريكى ذى التوجه المحافظ والمقرب من فانس، تاكر كارلسون، الناشط اليمينى المتطرف، نيك فوينتس، الذى يجاهر بإنكار المحرقة اليهودية «الهولوكوست»، وتمجيد هتلر والنازية. وخلصت هرتزل إلى أن تغلغل العداء لليهود وإسرائيل داخل أروقة اليمين الأمريكى، إنما يهدد الأساس الحزبى المشترك الذى ارتكن عليه الدعم الأمريكى للصهيونية طيلة عقود، كما ينذر بإضعاف قدرة إسرائيل على المناورة السياسية داخل الأوساط الأمريكية، مما يخلف عواقب استراتيجية وخيمة على مستقبلها.
عبر مقال بعنوان: «إعادة سرد قصتنا: التحدى الذى تواجهه إسرائيل بعد اتفاق غزة»، اعترف روبرت سينجر، الكاتب الإسرائيلى، رئيس مركز التأثير اليهودى والمدير التنفيذى السابق للمؤتمر اليهودى العالمى، بتآكل السردية الصهيونية. كما اعتبر اقتناع 40% من اليهود الأمريكيين بارتكاب إسرائيل إبادة جماعية فى غزة إشارة خطيرة على اهتزاز وحدة الشعب اليهودى، وتآكل الثقة فى جيش الاحتلال، وتدهور سمعة إسرائيل عالميا. ومن ثم، يدعو سينجر إلى تدارك الوضع عبر تسريع وتكثيف التحركات التى أطلقتها حكومة نتنياهو مؤخرا بالتعاون مع مؤسسات دعائية دولية، لصياغة سردية صهيونية جديدة، يرجو أن تكون أشد تماسكا، أكثر إقناعا، وأبقى أثرا.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة