«الرخاوى» قارئًا لنجيب محفوظ

السبت 27 ديسمبر 2025 - 6:10 م

(1)
واحد من أهم الكتب والمعالجات النقدية النافذة لنصوص نجيب محفوظ، وتحديدًا نصه المعجز «أحلام فترة النقاهة» (صدرت طبعتها الأولى عن دار الشروق)، ثم «الأحلام الأخيرة» التى ظهرت أيضًا للمرة الأولى عن دار الشروق فى ديسمبر 2015، هو كتابُ الدكتور يحيى الرخاوى الذى صدر عن دار الشروق أيضًا بعنوان «عن طبيعة الحلم والإبداع»؛ وهو دراسة نقدية عميقة لأحلام فترة النقاهة. ولم تكن تلك الدراسة الوحيدة التى خص بها الدكتور الرخاوى أدب نجيب محفوظ، فقد كان صديقًا مقربًا منه، ومعالجًا وطبيبًا له، وقبل ذلك وبعده قارئًا ممتازًا لنصوصه وأعماله الأدبية.


وقد تميزت قراءات الدكتور الرخاوى -فى تقديرى- بخصوصية رهيفة جدًا، فضلًا عن منهجيته وأدواته التى وظفها فى قراءة «الأحلام» وتقديم ما يمكن أن نسميه «استبطانًا ذاتيًا تأمليًا» لهذه النصوص الموجزة والمكثفة، موظفًا فى ذلك خبراته التى راكمها عبر عقود فى ممارسة الطب النفسى، والمراقبة الدقيقة لسلوك المرضى، مما منحه قدرات وخبرات خاصة وفريدة لم تفد منه فقط فى علاج البشر، بل وفى قراءة النصوص الأدبية أيضًا.


(2)
والدكتور يحيى الرخاوى (1933-2022)، الذى رحل عن عالمنا قبل ثلاث سنوات، كان أحد أعضاء شلة الحرافيش التى تحلقت حول نجيب محفوظ واقتربت منه إنسانيًا وإبداعيًا طيلة اثنتى عشرة سنة متصلة (1994-2006). وأتيح للدكتور الرخاوى عقب محاولة الاغتيال الهمجية لنجيب محفوظ فى أكتوبر 1994 أن يقترب من الأديب الكبير، وأن يتولى الإشراف على علاجه نفسيًا وعصبيًا من آثار الاعتداء الوحشى الذى تسبب فى إصابة كف محفوظ اليمنى بما يشبه الشلل التام.


وبفضل جلسات العلاج الأسبوعية والتمرينات العلاجية والكتابية التى أعدها لنجيب محفوظ، استطاع أديب نوبل العملاق، بإرادة مذهلة، أن يتغلب على حالة الشلل هذه، ويستعيد بالتمرين والتدريب والمثابرة القدرة على الكتابة ومعاودة استخدام يده اليمنى.


وقد تمخض عن هذه التجربة الفريدة المثيرة ما عرف باسم «كراسات العلاج» أو «كراسات الإبداع»، التى كان محفوظ يمارس فيها كتابيًا تمرينات الكتابة والذاكرة، والاستدعاء الحر و«التداعى»، وهو ما أثمر فى النهاية عن عمله البديع المذهل فى أدبنا العربى «أحلام فترة النقاهة» و«الأحلام الأخيرة»؛ وهى النصوص التى تميزت بكثافتها وجماليتها المختزلة وشعريتها المحلقة، فضلًا عن تأبيها على التصنيف النوعى للأدب.


يصف الناقد الدكتور حسين حمودة جانبًا من هذه العلاقة؛ علاقة الطبيب المعالج بمريضه، التى ستتحول لاحقًا إلى ثنائية عكسية تتمثل فى علاقة «المريد بشيخه» أو «التلميذ بأستاذه» أو «الابن بأبيه»، بقوله: «قام الدكتور الرخاوى بدور نبيل فى رعاية الأستاذ نجيب محفوظ بعد محاولة اغتياله العمياء، التى أفقدته حرية الحركة، وهو المجبول على الحركة، وحرمته من القدرة على تحريك يده اليمنى التى طالما كتب بها». الدكتور يحيى الرخاوى ساعد نجيب محفوظ على القيام بتدريبات الكتابة اليومية المنتظمة، وقد ملأ الأستاذ نجيب، بدأب، عشرات وعشرات من الكراسات، كما لو كان طفلًا يتعلم الكتابة للمرة الأولى فى حياته، لكى يستعيد قدرته على تحريك يده التى أصابها الشلل تقريبًا، ولكى يستطيع العودة للكتابة بها مرة أخرى.


(3)
لكن علاقة الرخاوى بإبداع نجيب محفوظ، ونقد رواياته ونصوصه، تعود إلى ما قبل محاولة الاغتيال الآثمة بما يقرب من العشرين سنة. فالرخاوى، فضلًا عن شهرته التى كرسها بممارسته للطب النفسى وعلاج الإدمان، وتأسيسه واحدة من أشهر مصحات العلاج النفسى ومعالجة الإدمان فى عالمنا العربى، تكرست شهرته أيضًا منذ ثمانينيات القرن الماضى، وتحديدًا مع تأسيس مجلة «فصول» النقدية، بدراساته وقراءاته المختلفة للنصوص الأدبية من منظور نفسى عميق، ومختلف عما كان سائدا آنذاك من اتجاهات ومناهج التحليل النفسى للأدب.


وتميز الدكتور الرخاوى برهافة عالية فى معالجته لتلك النصوص، واستطاع أن يراكم نقدًا تطبيقيًا طال نصوصًا عالمية وعربية بل تراثية أيضًا، وخصَّ إبداع نجيب محفوظ بكمٍّ وافر منه ظهر فى عدد من الأعمال والقراءات والكتب، رغم أن كل هذه الإسهامات والدراسات والكتابات الغزيرة العميقة لم تنل ما تستحق من اهتمام وتقدير ومدارسة وتحليل.


ولعل من أهم وأبرز هذه الأعمال كتابه الأول «قراءات فى نجيب محفوظ» الذى صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1993، ثم كتابه الثانى «عن طبيعة الحلم والإبداع- دراسة نقدية فى أحلام فترة النقاهة» الذى صدر عن دار الشروق المصرية عام 2005.
وهذا الكتاب الأخير، على أهميته وعمق تناوله وطريقته المختلفة فى قراءة أحلام فترة النقاهة، لم ينل ما يستحقه من قراءة وتأمل وحضور مهم ضمن عشرات الكتب والأعمال التى يشار إليها باعتبارها مراجع وعلامات فى إضاءة أدب نجيب محفوظ ونصوصه.
والغريب أننى مع معاودة الاطلاع عليه وقراءته، استلفتنى فرادة بعض تفسيراته للأحلام، وتقاطعها مع قراءاته الأخرى لبعض نصوص محفوظ الشهيرة (الحرافيش، ليالى ألف ليلة، رأيت فيما يرى النائم)، فضلًا عن قراءته الخطيرة وربما غير المسبوقة لرائعة نجيب محفوظ المنسية «حديث الصباح والمساء»، التى غطت شهرة المسلسل المأخوذ عنها على النص ذاته.

 

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة