x قد يعجبك أيضا

عام وداع أوهام النظام الدولى

الأحد 28 ديسمبر 2025 - 7:50 م

مع نهاية هذا العام، الذى شهد فى بدايته عودة الرئيس دونالد ترامب إلى الحكم، وما حفل به من تحريك لحروب متعددة الطبقات، بدأت تداعياتها تظهر بقوة، ليس فى مستويات الواقع العيانى وحسب، وإنما وصلت إلى الخطاب السياسى للنخب الدولية، فإن كل المؤشرات تكشف من دون مواربة عن تلاشى أى أوهام بالنظام الدولى، بوصفه حامى القواعد، والموازن بين القوة والمبادئ. فالكل يعلم اليوم بأن هذا النظام وصل إلى مرحلة الهشاشة فى مؤسساته، خصوصا الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فهذه المؤسسات تآكلت فاعليتها فى العقود الماضية، وما عادت تشكل إطارا مرجعيا للتوافقات بين الدول الكبرى، وإنما تحوّلت فى كثير من الأمثلة إلى أدوات تعطيل وإعاقة.

جمع عام 2025 نتائج تراكمية طويلة، وأظهرها بشكل صريح، فعودة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض أعادت معها إلى الواجهة منطق القوة العارية التى لا تحتاج إلى أى مبرر سياسى أو أخلاقى مقنع، وهو ما تصرّح به واشنطن جهارا - على سبيل المثال- فى حربها الاقتصادية ضد فنزويلا، من دون أى اعتبار لمبدأ سيادة الدول على أراضيها، كما كشف الصراع فى أوكرانيا ضعف أوروبا فى حماية الدول المجاورة، فى الوقت الذى تستثمر فيه الصين فى الفراغ المتاح، بوصفه فرصة تاريخية، وكل هذه العوامل أظهرت أن النظام الدولى لم يعد قائماً على القواعد، بل على قدرة القوى الكبرى على فرض إرادتها واستغلال الفراغ الذى تتركه المؤسسات الضعيفة.

قياسا إلى ما وصلنا إليه، فإن الواقع الراهن للنظام الدولى هو نتيجة منطقية للتعاطى مع ولاية ترامب الأولى بين 2017 و2021 بأنها فترة شعبوية مؤقتة، لكنها فى الحقيقة كانت لحظة كشف للواقع الدولى برمّته، فقد تحدّى ترامب فى ولايته الأولى الاتفاقات الدولية، من التجارة إلى المناخ، وأعلن الاستخفاف بالمؤسسات متعددة الأطراف، وأعاد تعريف الحلفاء على أساس المصالح المباشرة، وفرض رسوما جمركية على الصين والاتحاد الأوروبى، وسحب الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ، وأعاد التفاوض على اتفاقيات الدفاع. وعلى الرغم من ذلك، اعتقدت النخب الغربية حينها أن تصرفاته حالة عابرة، وأن النظام الدولى سيعود إلى نصابه بعد الانتخابات، لكن الواقع أظهر هشاشة البنية التى كانت تحمى القواعد فى هذا النظام، والفجوة بين الخطاب المثالى والنفوذ الفعلى.

الحرب الروسية على أوكرانيا، التى بدأت فى 2022، شكلت اختبارا صارخا لنظام القواعد الدولية، فقد اكتشفت أوروبا التى أعلنت دعمها الكامل لأوكرانيا حدود قدرتها على الفعل من دون الولايات المتحدة، كما أن العقوبات الاقتصادية على موسكو كانت محدودة الأثر، وأن القيم الأوروبية، مثل الديمقراطية، ونزاهة الانتخابات، والرعاية الاجتماعية، قابلة للتراجع السريع حين تتعرّض المصالح الكبرى للخطر، وأن الخطاب القومى الشعبوى لم يعد شيئا من الماضى، فقد تسلّل مجدداً إلى السياسة والأحزاب والإعلام والشارع، كما أصبحت ملامحه واضحة فى سباق التسلح الجديد.

كان الأوروبيون يعتقدون إلى سنوات خلت بأن ما يجمعهم مع الولايات المتحدة قائم على توازن المصالح والمبادئ معا، وأن القيم الليبرالية الجامعة ليست أقلّ أهمية فى هذه المعادلة، وأنهما سوية شكّلا لعقود خلال الحرب الباردة صورة الغرب فى العالم، أو ما يمكن تسميته بقوة المثل المعيارية، لكن مع عودة الرئيس ترامب للحكم، ومحاولاته المستميتة لإبرام سلام فى أوكرانيا على حساب أوروبا، أصبح القادة الأوروبيون على يقين بأن واشنطن لم تعد تمنح وحدة القيم عبر ضفتى الأطلسى أى مكانة فى حساباتها الاستراتيجية، مثلما لم تعد تبالى بالقانون الدولى أو بالقيم المؤسسة للأمن والسلم العالميين بعد الحرب العالمية الثانية.

الصين، على الطرف الآخر، لم تعتبر الأزمة الأوكرانية مأساة، بل فرصة للتعلم والاستثمار فى الفراغ الاستراتيجى، فقد رصدت بكين ضعف أوروبا، واستفادت من التوتر بين الولايات المتحدة وبين روسيا لتوسيع نفوذها الاقتصادى فى مناطق مثل الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، عبر شراء النفط والذهب وإعادة تمويل الديون، وذلك عبر استراتيجية تستبعد الانخراط المباشر فى الصراعات، وتقوم على الاستثمار فيها لتحقيق نفوذ طويل الأمد، مع معرفتها الكاملة بأن اقتصادها هو شريان العالم، الذى يصعب المساس به.

وإذا كان لا بد من الإقرار بأننا ندخل فى طور يفتقر فيه النظام الدولى إلى قواعد عامّة تلتزم بها جميع الأطراف الفاعلة الكبرى، فإن ما هو قائم اليوم هو مثلث دولى لا يشكّل نظاما، تمثل الولايات المتحدة فى هذا المثلث القوة الأكبر التى تسعى إلى فرض إرادتها بعيدا عن الالتزامات التاريخية القيمية والسياسية، وهناك أوروبا كقوة قائمة لكن عاجزة، تراوح بين خطاب أخلاقى ينتمى إلى حقبة ماضية، كان فيه هذا الخطاب جزءا لا يتجزأ من دينامية وجودها كفاعل رئيسى فى الساحة الدولية، وبين تحوّلات بنيوية عميقة فى اقتصاداتها التى تواجه تحديات متعددة، وحالة عدم يقين من إمكانية الاستجابة لهذه التحدّيات من دون أن تدفع أثماناً سياسية واجتماعية باهظة، وهناك الصين، التى تستثمر فى حالة الفراغ القائمة، مستفيدة من انهيار القيود فى النظام الدولى.

حسام ميرو

جريدة الخليج الإماراتية

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة