x قد يعجبك أيضا

القانون الدولى يحاصر نتنياهو

الأحد 28 ديسمبر 2025 - 7:40 م

لم يعد بنيامين نتنياهو يتحرك فى العالم بصفته رئيس حكومة، بل بصفته عبئا قانونيا يتنقل تحت المراقبة، زعيما فقد امتياز الحركة الحرة، وصار كل خروج له من فلسطين المحتلة مشروع أزمة محسوبة بالدقيقة والمسار والاحتمال، ما يجرى اليوم ليس تفصيلا بروتوكوليا ولا إجراء احترازيا عابرا، بل تعبير فاضح عن سقوط الهيبة السياسية وتحول السلطة إلى قيد، والحكم إلى حصار.

أن تطلب دولة تعهدات خطية بعدم اعتقال رئيس حكومتها قبل السماح لطائرته بعبور الأجواء، فهذه لحظة كاشفة لانهيار الصورة التى طالما حاولت إسرائيل تسويقها عن قادتها كأشخاص فوق القانون وفوق المساءلة، نتنياهو، الذى اعتاد أن يُستقبل كـ«رجل الغرب المدلل»، بات اليوم يتصرف كمتهم يخشى أن يتحول أى مطار إلى بوابة اعتقال، وأى هبوط اضطرارى إلى نهاية سياسية مدوية.

طلب إسرائيل من فرنسا ضمانة مكتوبة لعبور طائرة «جناح صهيون» لم يكن بدافع سوء التنسيق أو خلل إدارى، بل لأنه يعكس هلعا حقيقيا من مذكرة التوقيف الدولية التى باتت تلاحق نتنياهو فى الجو كما تلاحقه على الأرض، فالموافقة الشفهية لم تعد كافية، والتطمينات الدبلوماسية لم تعد موثوقة، لأن صورة نتنياهو لم تعد صورة حليف طبيعى، بل صورة مسئول مشتبه به فى ارتكاب جرائم لا تسقط بالتقادم.

الأخطر من ذلك أن ما جرى مع فرنسا ليس استثناء، بل أصبح قاعدة فى إدارة تحركات نتنياهو الخارجية، مكتب رئيس الحكومة ووزارة الخارجية الإسرائيلية يعيدان رسم خرائط العالم وفق معيار واحد فقط: أين يمكن لنتنياهو أن يمر دون خطر الاعتقال؟ وأين يجب تفادى الأجواء والمطارات حتى لا تتحول الرحلة إلى فضيحة دولية؟ هكذا لم تعد السياسة الخارجية تُدار وفق المصالح والتحالفات، بل وفق منطق الهروب والاحتماء وتفادى القانون.

نتيجة ذلك، تغيّرت مسارات الطيران، طالت الرحلات، تقلّصت الوجهات، وارتفعت التكاليف الأمنية، لكن الخسارة الأعمق ليست مالية ولا لوجستية، بل رمزية وسياسية،  فالدولة التى كانت تفرض شروطها على العالم، باتت اليوم تتوسل الضمانات، وتطلب التعهدات، وتخشى المفاجآت القانونية، هذه ليست قوة، بل علامة وهن، وليست سيادة، بل ارتباك مكشوف.

إن تحوّل السماء إلى مساحة خطر على رئيس حكومة الاحتلال هو بحد ذاته إدانة سياسية وأخلاقية، ورسالة واضحة بأن زمن الإفلات من العقاب يقترب من نهايته، فسنوات طويلة بنت إسرائيل سلوكها السياسى والعسكرى على قاعدة عدم الاكتراث بالقانون الدولى، والاعتماد على الحماية السياسية الغربية لضمان الحصانة المطلقة، اليوم، هذه القاعدة تتصدع، وهذه الحماية لم تعد مانعة، والقانون الذى طالما تم تجاهله بدأ يفرض نفسه، ولو ببطء، كحقيقة لا يمكن تجاوزها إلى الأبد.

فالأمر لا يتعلق بشخص نتنياهو وحده، بل بمنظومة كاملة اعتادت العمل خارج أى مساءلة، واعتبرت الجرائم جزءا من أدوات الحكم، مذكرة التوقيف لا تعنى فقط تقييد حركة رجل، بل كسر جدار الصمت الدولى، وفتح ثغرة فى جدار الإفلات من العقاب الذى أحاط بإسرائيل لعقود، ومن هذه الثغرة يتسلل معنى جديد: أن الجرائم لا تُمحى بالقوة، وأن الزمن قد يتأخر، لكنه لا يلغى العدالة.

والقضية هنا لا تتعلق بفرنسا ولا بواشنطن ولا بمسار جوى بعينه، بل بصورة نتنياهو فى العالم، صورة رجل يحكم لكنه محاصر، يتخذ القرارات لكنه خائف، يلوّح بالقوة لكنه يتحرك كمن يسير فوق حقل ألغام قانونى، مذكرة التوقيف لم تسجنه بعد، لكنها سجنته سياسياً، وضيّقت عليه الفضاء، وكسرت وهم الحصانة المطلقة.

باختصار لا لبس فيه: نتنياهو ما زال فى الحكم، لكنه لم يعد حراً، ما زال يوقّع الأوامر، لكنه لا يستطيع الطيران دون إذن مكتوب، ما زال يتحدث بلغة القوة، لكنه يتحرك بمنطق المتهم، وهذه ليست مجرد أزمة سفر، بل بداية نهاية صورة "الزعيم الذى لا يُمس"، حين يصبح القانون الدولى أقوى من جناح صهيون، وأثقل من كل التحالفات.

إسماعيل جمعة الريماوى

جريدة القدس الفلسطينية

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة