فى أوائل السبعينيات، كان الوعى يتفجّر على وقع مظاهرات هنا، ومطالب دستورية هناك، ومجالس نيابية تُفتح وتُغلق، وصحف ومجلات تشرع أبوابها ونوافذها على أحداث الكون كلّه، أبعد بكثير مما يتصوره بعض أبناء الخليج والعالم العربى اليوم، الذين يظنون أن تلك المرحلة لم تكن سوى حلم رومانسى عابر. لكنها لم تكن حلمًا، بل زمنًا حيًّا، صاخبًا بالأسئلة، وممتلئًا بإحساس عميق بأن للناس صوتًا، وبأن للكلمة وزنًا.
• • •
تعود إليه ذكريات تلك المرحلة بكثافة مدهشة، كأنها حدثت بالأمس. هو الذى اقتحم عقده السابع منذ سنوات، وما زال يقاوم الزمن بمزيد من الكتابة، وبإصرار على تحفيز الذاكرة، بل نبشها حتى أبسط التفاصيل. يعيد سرد الحكايات بالأسماء، والأماكن، وألوان الملابس، مكويّها ومهترئها، وبالفروق البسيطة بين من ينتمون إلى عائلات ميسورة، وآخرين من بيوت أكثر تواضعًا، من دون أحكام أو استعلاء، كأن كل ذلك كان جزءًا طبيعيًا من نسيج الحياة.
• • •
بين جملة وأخرى، يتوقف فجأة عن الحديث الممتع حدّ النشوة، ويقول مبتسمًا: "آخ... شفتوا، نسيت الاسم". يتصوّر للحظة أن الشيخوخة بدأت تزحف إلى ذاكرته، ولا يدرك أنه يملك ما لا يملكه كثيرون: ذاكرة لا تخصّه وحده، بل ذاكرة وطن. يأخذ الجالسين معه فى رحلة تتجاوز الخيال، بتفاصيل دقيقة ومثيرة، لا ليستعرض، بل ليحفظ. فهذه الذاكرة ليست حنينًا فرديًا، بل محاولة إنقاذ لمعنى مكان.
• • •
ذلك المكان الذى يسكنه، ويحاول البعض اليوم تحويله إلى مهرجانات موسمية، وبهجة سريعة تجلب السياح وتغادر، بعد أن أُهمِلت الأمكنة قبل البشر، وارتحل الناس، أو القادرون منهم، إلى مدن حديثة وبعيدة، بينما استقر آخرون فى مدن الإسكان الحكومية. المكان الذى يتذكّره لم يكن واجهة، بل حياة كاملة.
• • •
حين نبش «الأستاذ» ـــــ كما كنا ولا نزال نسمّيه ــــــ ذلك الماضى، لم يكن يستدعى مجرد ذكريات شخصية أو مهنية. هو أستاذ فى الصحافة والإعلام، وفى فن نقش الحرف وزخرفة الكلمة، لذلك كان يستدعى تاريخًا كاملًا لصحافة كانت يومًا ما فعلًا عامًا، لا وظيفة. مهنة لها منهج، ورسالة، وأخلاقيات، قبل أن تتحول فى كثير من بلداننا إلى أبواق، أو تسطيح، أو تلفيق، وتبتعد عن أصلها الأول: أن تكون صوت الناس، لا صوت السلطة ولا صدى السوق.
• • •
تدرّب على يده كثيرون منا، حين كانت الصحافة مهنة للمحترفين لا الهواة، وللمؤمنين بها حقًا، أو على الأقل لمن يدّعون ذلك بجدّية. كان القارئ آنذاك أكثر وعيًا، يفرّق بين الحقيقى والمصطنع، وربما حتى الملفّق. أول دروسه لنا كان صارمًا وبسيطًا: لا عمل صحفى من خلف المكتب، ولا مقابلات عبر الهاتف، ولا أسئلة جاهزة، ولا تحقيقات بوجهة نظر واحدة. كان ذلك يبدو بديهيًا فى زمن لم تكن فيه الهواتف الذكية قد وُجدت، لكنه اليوم يبدو درسًا قادمًا من زمن سحيق.
• • •
أتذكّر الآن، بكثير من البهجة، كيف كان يعيد المقالة أو التحقيق أو الخبر إلينا مرة بعد مرة، مطالبًا بإعادة الصياغة، ومقيمًا بيننا مبارزات حول أجمل وأقوى عنوان. لم يكن يقتنع بالعناوين المطوّلة ولا بالديباجات المكررة. كان يعلّمنا أن ننقّب عن الحرف فى مخبئه، وألا نكرّر كلمة فى لغة هى من أغنى لغات العالم، رغم أن بعضنا اليوم يتباهى بالحديث بالإنجليزية، كأنها وحدها دليل التحضّر، متناسيًا أن لغته الأم، ولغة كتبه المقدسة، هى العربية.
• • •
كان يدخل المكتب كل صباح محمّلًا بصحف ومجلات مصر والعالم العربى، مولعًا بكتابات أساتذته، شأنه شأن كثير من الصحفيين فى الخليج الذين تعلّموا، بشكل مباشر أو غير مباشر، على أيدى كبار الصحافة المصرية. يتذكّر اليوم الذى كانت تصل فيه الصحف والمجلات، غالبًا يوم الخميس، وكيف كان البحرينيون يصطفّون أمام المكتبة، فى سباق محموم لاقتناص نسخهم، فى مشهد يبدو اليوم، لمن لم يعشه، كأنه حكاية من كوكب آخر.
• • •
تلك الذاكرة لا تشيخ، ولا تتوقف عند هذه التفاصيل البسيطة، بل لتلك الجلسة، ولذاكرة الأستاذ، مقالات أخرى ربما. لأنها لم تكن ذاكرة رجل واحد، بل ذاكرة زمن آمن بالكلمة... وعلّمنا كيف نحرسها.
كاتبة بحرينية