x قد يعجبك أيضا

من القاهرة إلى قرطاج.. عودة إلى القسمة العادلة بين مهرجانات العصر الذهبى السينمائية (2-2)

الخميس 25 ديسمبر 2025 - 7:25 م

على الرغم من تكاثر المهرجانات السينمائية فى المدن العربية فى الآونة الأخيرة، يمكن القول إن الأبرز من بين مهرجانات ختام الموسم، وكالعادة، كان مهرجان القاهرة ويليه أيام قرطاج السينمائية، وهو أمر تحدثنا عنه فى الأسبوع الفائت، كما عن إصرارنا على التركيز عليه هنا، لأن «أيام قرطاج» كان مسك الختام، وتمكن من أن ينعقد، وينعقد بأقرب ما يكون إلى عصره الذهبى، الذى لم يصنعه هو نفسه فقط، بل صنع كذلك ما يمكننا أن نسميه «العصر الذهبى للحالة المهرجانية فى السينما العربية»، متغلبًا على كمّ غير محدود من الظروف فى بلده، تونس، والتى، بتضافر السياسى والاقتصادى والإدارى فى هذا البلد، كانت تجعل من هذا الانعقاد ما يبدو مستحيلًا. كالعادة فى السنوات الأخيرة، حققت تونس إذًا تلك المعجزة الصغيرة: انعقدت الدورة السادسة والثلاثون لـ«أيام قرطاج«… واستعادت العاصمة التونسية مشاكلها ومصاعبها المستعصية مع أول إشارات البرد والمطر الكثيف، فيما ضيوف المهرجان يغادرون وهم على تلك الدهشة الإيجابية، على أية حال، التى تتجدد كل عام منذ سنوات، مع وعد لا يبدو الوفاء به مؤكدًا منذ الآن، بالعودة فى السنة المقبلة!
والغريب الغريب، هذا العام أيضًا، أن دورة «الأيام» السادسة والثلاثين انعقدت، ورغم كل شىء، بزخم يكاد يستعيد ذاك الذى حققه الراحل نجيب عياد خلال ثلاث أو أربع دورات أشرف عليها قبل حين، وذكّرت محبى السينما، تونسيين كانوا أو عربًا ضيوفًا أو إفريقيين أو أوروبيين بشكل عام، بالمجد القديم الذى عرفته أيام قرطاج منذ تأسيسها على يد الطاهر شريعة، ثم فى معظم دوراتها التالية التى اعتادت أن تقام مرة كل سنتين ثم مرة كل عام، خالقةً لها خصوصية كونها عربية وإفريقية، مقابل مهرجان دمشق الذى كانت له مكانته فى السنوات الغابرة، وكاد يتخصص فى السينمات العربية والآسيوية، ولكن خصوصًا مقابل مهرجان القاهرة الدولى، الذى يبقى أكبر المهرجانات العربية وأكثرها أهمية. والغريب فى الأمر أن هذه المهرجانات الثلاثة تبقى، فى تاريخ الحالة المهرجانية السينمائية العربية، قمة ما وصل إليه حب السينما فى العالم العربى والاحتفال بها... رغم كل شىء. أى، بالتحديد، رغم أن فى مقدورنا أن نحصى دائمًا أكثر من خمسين مهرجانًا ذا شأن فى مدن العرب وربما أريافهم أيضًا، وقد يكون معظمها أكثر غنى وإنفاقًا وبذخًا من مهرجانات القاهرة وقرطاج ودمشق. والحقيقة أن هذا الواقع يقول لنا إنه حتى ولو كانت ضخامة الميزانيات التى تُخصص لمهرجانات مهمة، فإن الأهم يبقى فى مكان آخر. وهذا المكان يقف خارج البذخ والإسراف، على أية حال، ولن نعود إلى هذا الأمر هنا، فإن له مجالات مقبلة بالتأكيد ستمكننا من الحديث عنه.
أما هنا، فلا بأس من التوقف عند الأيام القرطاجية بالتلاقى مع دمشق الغائب، والقاهرة الذى يمكن وضعه فى خانة مختلفة، ربما تجعل الحديث عنه متواكبًا مع الحديث حول مهرجانات أوروبية دولية. وهذا يقودنا، بالنسبة إلى «قرطاج»، للتساؤل حول خصوصيته ومكانته، وما الذى يؤمّن له استمراريته واحترامه مهما تقلبت به ظروفه والظروف التونسية بصورة عامة.
الحقيقة أن من أهم ما يَسِم هذا اللقاء السينمائى هو أن مؤسسه ورفاقه الأوائل والمتابعين، من الطاهر شريعة وحمادى الصيد ودرة بوشوشة وعبد اللطيف بن عمار، وصولًا إلى أحمد بهاء الدين عطية ونجيب عياد ولمياء القايد قيقة وأخيرًا طارق بن شعبان، أرادوه منذ أوائلهم وحتى أجدّهم اليوم منصةً لسينما كبيرة وتجديدية، عرفت دائمًا كيف تميّز هذا الفضاء الفنى الثقافى الكبير. وكانت تظللهم منذ البداية حركة نوادٍ سينمائية تتميز عما يمكن مقارنته بها فى أى بلد عربى، ناهيك بحركة نقدية، ولكن أكثر من ذلك، وأهم، بجمهور سينيفيلى مدهش، ليس فقط فى نوعيته، بل فى عدده. ولا يزال كثرٌ منا يندهش حتى اليوم أمام صور تذكّره بآلاف السينيفيليين يغزون الصالات التى تعجز دائمًا عن استيعاب أعدادهم، لمجرد أن يكون المعروض فيلمًا تجديديًا فى الشكل أو المضمون، وغالبًا فى الاثنين معًا، بالطبع.
وهكذا تمكنت «قرطاج» من أن تعرض، على مدى تاريخها، بعض أهم الأفلام التى تحمل حتى الآن صفة انتمائها إلى «السينمات العربية الجديدة». فمن توفيق صالح إلى إيليا سليمان، ومن برهان علوية ومرزاق علواش وعبد اللطيف بن عمار، إلى محمد خان والكبير يوسف شاهين بالتأكيد، ومن يسرى نصر الله إلى رضوان الكاشف وأسماء البكرى وكحد ملص وخالد الصدّيق وغيرهم وغيرهم، كلهم مرّوا عابرين «قرطاج»، مفضلين عرض أفلامهم فى أيامها، مهما كانت إغراءات الآخرين. وهؤلاء وغيرهم، ناهيك بالسينمات الإفريقية التى وجدت فى قرطاج منصات تطل منها على جمهور عربى لم يكن مؤكدًا قبل ذلك، كانوا يعرفون أن ثمة فى الصالات القرطاجية المكتظة جمهورًا عريضًا يشاهد أفلامهم ثم يناقشها فى الندوات وعلى الصفحات، وجوائز تبقى مصدر مجد لهم بعد أن تُنسى جوائز كثيرة أخرى قد تبدو ساعة منحها ضخمة ومؤثرة. لكن الفعل التاريخى الحقيقى يبقى للطانيت القرطاجية، بالتأكيد.
بكلمات أخرى، فيما كان ولا يزال مجد الحصول على جوائز كبيرة أو صغيرة هدفًا كبيرًا للسينمائيين، لا شك أن المجد الأكبر كان ولا يزال مرتبطًا بالجوائز القرطاجية. بل إن فى الإمكان دائمًا استعادة عرض فيلم تُوِّج يومًا فى قرطاج، مع إشارة، مثلًا، إلى سمة أساسية فيه فحواها: «هذا الفيلم نال الطانيت الذهبى، أو أقل من ذلك، فى قرطاج»، فتكون هذه الإشارة نقطة جذب أساسية. ولقد كان هذا، ويبقى، جزءًا من تاريخ السينما العربية الجديدة، حتى ولو حظيت مهرجانات شديدة الجدية هى الأخرى بمجد إقامة ندوات ومؤتمرات لا تنتهى حول السينما العربية الجديدة أو البديلة أو التجديدية أو أى شىء تريدون! فالتنظير ربما كان من نصيب – وربما واجب – عواصم سينمائية عربية أخرى، أما البعد العملى، كما أعمق النقاشات – حول السينمات العظيمة، ولو على المستويين العربى والإفريقى على الأقل – فيكاد يكون من نصيب قرطاج، وصالاته وقاعاته ومعارضه، بل حتى جلسات فنادقه، وفى زحام انتظار الحصول على بطاقة لحضور فيلم، أى فيلم.
ففى النهاية، معظم ما يُعرض فى «قرطاج» يتسم بقيمة إبداعية، وربما سياسية أيضًا، لا تنضب؛ قيمة مؤكدة فى تاريخ السينمات العربية الجديدة. وحتى حين لا يبدو ذلك واضحًا أمام مساوئ تقلبات الطقس فى التوقيت التونسى، وربما أيضًا تحت وطأة الزحام الخانق فى أزقة العاصمة وجاداتها، كما عند مداخل الصالات وما إلى ذلك، فإنه مع مرور الزمن سوف يبدو أكثر وضوحًا، ولا سيما مع استعادة حديث الذكريات. مثلًا، حين يُستعاد ذكر أى فيلم كبير وأساسى من تلك الأفلام التى صنعت التاريخ الذى نفتخر به للسينمات العربية الجديدة، فيكون أول ما يتبادر إلى ذهن المستعيد أنه «حقًا كان هناك». وحقًا شاهد هذا الفيلم أو ذاك وسط زحام جمهور خانق، وتأفف، وتعب، وتصبب عرقًا، بل حتى استاء من ظروف عرض بالغة السوء أحيانًا... لكن المعجزة – وللسينما دائمًا، كما نعرف، معجزاتها – أن حديث الذكريات سينتهى به دائمًا بالجملة العجيبة: «لقد كنت هناك! بعد كل شىء كنت هناك! ولعل الشىء الأهم فى ذلك كله أننى يومها كنت هناك... رغم كل شىء!».

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة