أُضيئت شجرة الميلاد فى ساحة كنيسة المهد فى مدينة بيت لحم بداية هذا الشهر احتفالًا بعيد ميلاد السيد المسيح، بعد أن توقفت تلك الاحتفالات لمدة عامين، بسبب حرب الإبادة التى شنتها إسرائيل على الشعب الفلسطينى. لم تتوقف الحرب، وإن انتهت المعارك العسكرية، فآثار حرب الإبادة لا تزال مستمرة على الشعب الفلسطينى بكل طوائفه. وبينما يحتفل مسيحيو فلسطين بأعياد الميلاد هذا العام، يشغل بال الكثير منهم سؤال البقاء أو الهجرة. يودون البقاء حفاظًا على هوية فلسطين المسيحية، ويخشون البقاء أيضًا خوفًا على مستقبل أولادهم فى بلدٍ محتل، لا تتوقف فيه قوى الاحتلال يومًا عن البطش.شكّل المسيحيون أكثر من 11% من سكان فلسطين قبل نكبة عام 1948، أما اليوم فإن نسبتهم فى المناطق الخاضعة للسلطة الوطنية الفلسطينية لا تتجاوز 1%، ويرجع ذلك الانخفاض الحاد فى نسبتهم إلى عامل الهجرة.عرف مسيحيو فلسطين أربع موجات للهجرة خلال القرن الماضى. كانت وجهة الموجة الأولى هى أمريكا اللاتينية مطلع القرن العشرين. وجاءت الموجة الثانية خلال نكبة عام 1948، ثم الموجة الثالثة من منطقة القدس الكبرى إلى العاصمة الأردنية عمّان خلال فترة الإدارة الأردنية للضفة الغربية والقدس. إذ تسببت النكبة الفلسطينية فى مايو 1948، ثم الاحتلال الإسرائيلى للضفة الغربية والقدس وقطاع غزة فى يونيو 1967، فى هجرة نحو 35% من المسيحيين الذين عاشوا فى فلسطين التاريخية. وأخيرًا جاءت الموجة الرابعة بعد هزيمة عام 1967، إذ بلغت نسبة المسيحيين فى الأراضى التى احتلتها إسرائيل آنذاك نحو 6%، لتستمر هذه النسبة فى الانخفاض خلال العقود التالية. والجدير بالذكر أن السلطة الفلسطينية أجرت -بعد اتفاقيات أوسلو عام 1993- عددًا من الإحصاءات الوطنية الرسمية. بلغت نسبة المسيحيين فى الإحصاء الأول الذى أُجرى عام 1997 نحو 1.5% من عدد السكان، وفى الإحصاء الثانى عام 2007 نسبة 1.2%، وانخفضت نسبتهم خلال الإحصاء الثالث الذى أُجرى عام 2017 لتصل إلى 1% فقط.• • •تجدر الإشارة إلى أن موجات الهجرة تلك لم تقتصر فقط على المسيحيين، بل شملت أيضًا بعض المسلمين. والسبب الرئيسى لكل منهما هو الاحتلال وسياساته الأمنية والاقتصادية والثقافية التى جعلت من الحياة اليومية فى فلسطين أمرًا يصعب تحمله. نشرت جامعة دار الكلمة فى بيت لحم عام 2017 دراسة حول هجرة المسيحيين فى فلسطين. استندت الدراسة إلى مقابلات مع ألف فلسطينى، نصفهم من المسيحيين والنصف الآخر من المسلمين، بهدف فهم العوامل التى تدفع مسيحيى فلسطين إلى الهجرة. انتهت الدراسة إلى أن «ضغط الاحتلال الإسرائيلى، والإكراه الدائم، والسياسات التمييزية، والاعتقالات التعسفية، ومصادرة الأراضى تزيد الشعور العام باليأس لدى المسيحيين الفلسطينيين»، ما يدفعهم إلى التفكير فى الهجرة.يعيش اليوم 182 ألف مسيحى فلسطينى داخل حدود دولة إسرائيل، ويتركز أغلبهم فى مدينتى الناصرة وحيفا. أما الضفة الغربية، فتضم حوالى 50 ألفًا يعيشون بالأساس فى مدن القدس الشرقية، وبيت لحم، وبيت جالا، وبيت ساحور، ورام الله. بينما بلغ عدد المسيحيين فى قطاع غزة قبل حرب الإبادة الأخيرة حوالى 1200 مسيحى. جاء بعض هؤلاء إلى غزة فى أعقاب قيام دولة إسرائيل عام 1948، وتعود أصول البعض الآخر إلى القرون الأولى للمسيحية، فالوجود المسيحى فى غزة لم ينقطع منذ القرن الثالث الميلادى إلى اليوم. إلا أن هذا الوجود مهدد اليوم بالانتهاء، حيث تناقصت أعداد مسيحيى غزة إلى النصف منذ السابع من أكتوبر 2023؛ فمنهم من قُتل جراء القصف الإسرائيلى، ومنهم من خرج من غزة، وآخرون فقدوا حياتهم بسبب نقص الغذاء والدواء.• • •تعمل إسرائيل منذ عقود على محاولة دفع مسيحيى فلسطين إلى ترك وطنهم. ويراهن الاحتلال على أن الحرب التى لا تتوقف، وما يترتب عليها من صعوبات اقتصادية، وكذلك سياسات التمييز العنصرى، ستدفع فى نهاية المطاف المسيحيين الفلسطينيين إلى الهجرة. الوجود الفلسطينى المسيحى، خاصة فى القدس والضفة الغربية وغزة، يشكل تحديًا لما تروج له إسرائيل من أن الأقليات الدينية يمكنها أن تعيش بأمان فقط ضمن حدود الدولة الإسرائيلية. كما أن هذا الوجود المسيحى داخل الأراضى الفلسطينية يقف حجر عثرة أمام السردية الشائعة داخل بعض الدوائر المسيحية فى الغرب، والتى تسعى فيها إسرائيل إلى تصوير الصراع على أرض فلسطين كونه ما بين الدولة اليهودية والتطرف الإسلامى، وليس كونه صراعًا بين احتلال إسرائيلى فى مواجهة الشعب الفلسطينى بكافة طوائفه الدينية، ومنها المسيحيون. بدأت إسرائيل بالضغط على مسيحيى غزة، الذين تناقصت أعدادهم إلى النصف خلال الحرب الأخيرة، وتستمر فى سياستها الرامية إلى دفع مسيحيى الضفة الغربية والقدس إلى الخروج أيضًا من فلسطين، لتبقى إسرائيل هى المجتمع المتنوع الذى يضم المسيحيين والمسلمين واليهود، فى مواجهة المجتمع الفلسطينى الذى يتم إظهاره بأنه فقد تنوعه بسبب نزعاته المتطرفة.يقول محمد حسنين هيكل فى كتابه عام من الأزمات (2001): «أى خسارة لو أحس مسيحيو الشرق -بحق أو بغير حق- أنه لا مستقبل لهم ولأولادهم فيه، ثم بقى الإسلام وحيدًا فى المشرق لا يؤنس وحدته غير وجود اليهودية الصهيونية -بالتحديد- أمامه فى إسرائيل». ويؤكد الفكرة ذاتها القسيس الفلسطينى، ابن مدينة بيت لحم، مترى الراهب، الذى يرى أن هجرة المسيحيين من فلسطين تصب فى صالح إسرائيل، «فالمسيحيون هنا هم حجر عثرة فى وجه المخططات الإسرائيلية الرامية إلى تحويل الصراع من صراع وطنى حول شعب وأرض إلى صراع ذى طابع دينى». رفض الراهب أن يهاجر من مدينته، وعاد إليها بعد دراسته فى ألمانيا، فأنشأ جامعة دار الكلمة فى بيت لحم، وجعل شعارها «لتكن لنا حياة ولتكن أفضل».أُضيئت شجرة الميلاد فى بيت لحم، حيث وُلد السيد المسيح قبل ألفى عام، وسط أجواء من الأمل رغم الاحتلال. فتقع 86% من مساحة المدينة تحت احتلال المستوطنين، وتحاصرها 56 نقطة تفتيش إسرائيلية، وهى محاصرة من ثلاثة جوانب بجدار الفصل العنصرى، البالغ ارتفاعه أكثر من سبعة أمتار، ليجعل كل ذلك من المدينة التى وُلد فيها المسيح سجنًا كبيرًا. تحاصر إسرائيل بيت لحم، كما حاصرها الملك هيرودس قبل نحو ألفى عام، وتسعى إلى إنهاء الوجود المسيحى فيها، كما سعى هيرودس من قبل إلى قتل السيد المسيح طفلًا. نجا المسيح، وغيرت رسالته وجه العالم. وبينما اختار مسيحيون الهجرة من فلسطين أملًا فى مستقبل أفضل، فإن آخرين شهدوا إضاءة شجرة الميلاد فى بيت لحم هذا الشهر، رافضين أن تُتمم دولة الاحتلال ما أراده هيرودس، ومدافعين عن هوية مدينتهم ووطنهم.
مقالات اليوم حسن المستكاوي مصر وجنوب إفريقيا وأمطار المغرب نيفين مسعد ذكريات من فوق الدولاب محمد بصل أمير الشعراء.. مأتم جديد بلا عزاء إبراهيم العريس من القاهرة إلى قرطاج.. عودة إلى القسمة العادلة بين مهرجانات العصر الذهبى السينمائية (2-2) قضايا آسيوية كيف توازن الهند علاقاتها بين روسيا والولايات المتحدة؟ من الصحافة الإسرائيلية العنف فى الضفة الغربية بات تطبيقًا ممنهجًا لسياسة الضم
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك