صراع القوى الكبرى على الموانئ العالمية
السبت 18 أكتوبر 2025 - 6:30 م
إذا كانت الإمبراطوريات تبدأ فترات ازدهارها من خلال تعاظم دورها الاقتصادى فى الداخل، ثم تمتد تاليا إلى الخارج، ومن تلك النقطة تمضى قدما فى عالم العسكرة، فإن الصين تسلك هذا الطريق. وعلى الرغم من احتدام «الحروب التجارية» وتوسعها لبناء تحالفات جديدة وفق ما تقتضيه التطورات «الجيوسياسية»، فهى لا تفكر حاليا فى خوض معارك عسكرية مع الولايات المتحدة، انطلاقا من أن معركتها الأساسية والرئيسة هى اقتصادية.
وبما أن الموانئ هى بوابات لا بد من المرور عبرها لبلوغ نقطة الذروة فى قيادة الاقتصاد العالمى، لذلك تعتبر الصين أن بسط نفوذها فى البحار هو رمز لصراع أوسع، خصوصا أنها تعتمد على رأس المال الحكومى، والتكامل الاقتصادى لضمان السيطرة على طرق التجارة، فى حين تحشد الولايات المتحدة رأس المال الخاص وتحالفاتها الدولية للتصدى لهذا النفوذ المتصاعد. مع الإشارة إلى أن التحكم فى الموانئ لا يهدف إلى الربح المالى فقط، بل أيضا إلى استخدام ما يسمى بـ «القوة الناعمة» فى ملفات سياسية وعسكرية.
فى ظل أكبر اضطراب فى قواعد التجارة العالمية، وهو غير مسبوق منذ أكثر من ثمانين عاما، نتيجة فرض إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب رسوما جمركية، تشتد حدة «الحروب التجارية». لكن اللافت أن التجارة العالمية سجلت نموا بقيمة 300 مليار دولار فى النصف الأول من العام الحالى، مدفوعة بزيادة كبيرة فى واردات الولايات المتحدة بنسبة 14 فى المائة، وصادرات الاتحاد الأوروبى بنسبة 6 فى المائة، وذلك وفق أحدث تقرير صادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد).
وكشف التقرير عن تحول فى أنماط النمو التجارى، إذ تفوقت اقتصادات الدول المتقدمة على نظيراتها النامية فى الربع الأول، بعد فترة شهدت تفوقا لاقتصادات الجنوب العالمى. كذلك شهدت الفترة الماضية اتساعا فى الاختلالات التجارية، حيث سجلت الولايات المتحدة مزيدا من العجز، مقابل تحقيق الصين والاتحاد الأوروبى فوائض متزايدة؛ ما أدى إلى ارتفاع حجم الفجوات الثنائية والميزان التجارى بين الولايات المتحدة وشركائها الرئيسيين، وأهمها الصين.
فى هذا السياق، حذرت «أونكتاد» من تصاعد المخاطر التى تهدد التجارة العالمية خلال النصف الثانى من العام الحالى، فى ظل استمرار حالة «عدم اليقين» فى السياسات، وتصاعد التوترات «الجيوسياسية»، ومؤشرات تباطؤ النمو العالمى، إضافة إلى توقع أن تتزايد السياسات الصناعية المحلية والدعم الحكومى فى القطاعات الاستراتيجية والتقنية، ما قد يعطل شبكات الإنتاج المتزايدة عالميا. لكن، على الرغم من هذه التحديات، تبرز عوامل الصمود فى تعافى مؤشرات الشحن، وخصوصا على المستوى البحرى، وتعزيز التكامل الإقليمى، واستمرار قوة تجارة الخدمات.
• • •
وفق تقرير صادر عن «كلاركسونز للأبحاث البحرية» لعام 2024، يمر أكثر من 80 فى المائة من التجارة العالمية لجهة الحجم، عبر البحر، من خلال استخدام أكثر من 940 ميناء رئيسا حول العالم. وتبرز مكانة الصين فى المرتبة الأولى، إذ لديها ميناءان رئيسيان هما: ميناء «شنغهاى» وهو الأكبر عالميا، ويعالج نحو 50 مليون حاوية سنويا، وميناء «نينغبو - تشوشان»، ويعالج نحو 33 مليون حاوية، يليهما ميناء «سنغافورة» بـ 39 مليون حاوية، وميناء «روتردام» فى هولندا 14.3 بمليون حاوية، وهو الأكبر فى أوروبا. وتعكس هذه الأرقام أهمية حجم الشحن وقوة اقتصاد كل دولة من الدول «الرائدة» فى النقل البحرى.
وعملا بالقاعدة المتداولة، فإن الدولة التى تشغل موانئ أكثر، تملك مفاتيح التأثير التجارى فى مسار حركة التجارة العالمية، وعلى قرارات الشركات العملاقة. ووفق بيانات تقرير «دريورى»، يسيطر سبعة مشغلين كبار على أكثر من 40 فى المائة من حركة الموانئ العالمية، تتقدمهم شركة موانئ دبى (دى بى وورلد) الإماراتية التى تشغل 78 محطة فى أكثر من 40 دولة، تليها «أى بى أم مينالس» الدنماركية بأكثر من 70 محطة موزعة بين إفريقيا وأوروبا والأمريكيتين، ثم شركتين صينيتين هما «هوتشيسون بورتس» هون كونج نحو 52 محطة فى 26 دولة، و«تشاينا ميرشانتس هولدينج» التى تدير 50 محطة عالميا، بما فى ذلك موانئ فى آسيا وإفريقيا وأوروبا، وبما يعكس استراتيجية الصين فى تعزيز نفوذها البحرى، منافسة بذلك أوروبا والولايات المتحدة التى بدأت سيطرتهما تتآكل تدريجيا، مع تراجع الاستثمارات الغربية فى البنى التحتية البحرية بسبب التشريعات البيئية أو حسابات الجدوى الاقتصادية.
• • •
انتبهت الولايات المتحدة متأخرة لخطورة هذا الملف، فاندفعت فى اتجاه شراكات أمنية ولوجستية عبر موانئ الخليج والقرن الإفريقى. وفى يوليو الماضى، نشرت مجلة «ناشيونال إنترست» مقالا مطولا للكاتب «ماثوى فيلان» تحت عنوان: «هل تستطيع أمريكا وقف توسع الموانئ الصينية؟»، وأورد المقال بشكل واضح وجود مخاوف من «أن توسع حضور الصين فى الموانئ العالمية يهدد أمن الولايات المتحدة ونفوذها الاقتصادى وتجارتها الحرة، ويجب على واشنطن مواجهة نفوذ بكين بتمويل التنمية والضغط الدبلوماسى، والتنسيق مع حلفائها قبل فوات الأوان».
ومن خلال سيطرتها على الممرات المائية العالمية بصورة شبه كاملة منذ الحرب العالمية الثانية، نظرت واشنطن إلى الصراع حول الموانئ التجارية بأنه لا يقتصر على المنافسة التجارية، بل يمتد إلى النفوذ العسكرى من خلال النفوذ الاقتصادى، عبر شبكة من الاستثمارات والتحالفات السياسية البينية. لذلك تتزايد المخاوف الأمريكية بعد دخول الصين بقوة إلى أسواق أمريكا اللاتينية، لتصبح الشريك التجارى الأول فى المنطقة، تمهيدا لتحقيق هدفها فى الوصول إلى الصادرات الأساسية لأمنها الغذائى وأمن الطاقة. وقد تستثمر فى بعض الموانئ البرازيلية المعروضة للبيع. ولعل أخطر ما يخيف واشنطن هو وصول الصين إلى المنطقة الجغرافية التى تمثل الخلفية اللوجستية للإمبراطورية الأمريكية، لأن ذلك يهدد النفوذ الأمريكى فى النصف الغربى من الكرة الأرضية. ومن هنا تبرز أهمية وخطورة ما يجرى فى سياق تطور النفوذ الصينى فى قناة بنما التاريخية، الأمر الذى قد يدفع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى التدخل العسكرى.
• • •
تمتلك إفريقيا شريطا ساحليا بطول 30 ألف كيلومتر، وتضم أكثر من 300 ميناء، وقد دخلت ساحة المنافسة الدولية، حيث تتسابق الشركات العالمية على استثمار موانئها. وبرزت الصين من خلال شركاتها بتحكمها فى مفاصل لوجستية أساسية، وهى تستثمر فى 62 محطة بحرية وبينها موانئ فى نيجيريا وكينيا وأنغولا وتنزانيا. فيما تحاول أوروبا إعادة التموضع عبر اتفاقات أمنية وتجارية مع دول مثل السنغال وأنغولا.
وتتمتع القارة السمراء بثروات طبيعية وافرة، معظمها لا يزال فى باطن الأرض من نفط وذهب ويورانيوم ومعادن ثمينة. وتتوافر فيها فرص التنمية لمائتى عام مقبلة (وفق تقديرات دولية). ولعل الأكثر إثارة أن 33 ميناء إفريقيا تقع على المحيط الهادئ فى صورة محطات لتصدير المعادن، إضافة إلى منطقة شرق إفريقيا والمحيط الهندى، حيث تركيز 17 ميناء باستثمار صينى، معظمها داخل القرن الإفريقى. وتقدر الحصة السوقية للشركات الصينية العاملة فى مجال تطوير الموانئ البحرية وإنشائها بنسبة 61 فى المائة من إجمالى حجم هذا القطاع.
وفى هذا السياق لا بد من التطرق إلى مصر التى تمتلك 19 ميناء بحريا تجاريا فى البحرين الأحمر والأبيض المتوسط، وهى تركز على أهمية موانئها، ولاسيما منها الإسكندرية وبور سعيد، لقربهما من قناة السويس التى يمر عبرها 12 فى المائة من التجارة العالمية، وتعالج نحو 6 ملايين حاوية سنويا، وفيها مركز لإعادة الشحن، تديره شركة قناة السويس للحاويات، ما يجعلها هدفا لاستثمارات صينية وأوروبية.
• • •
لطالما شكلت الموانئ المصرية فى موقعها الاستراتيجى نقطة جذب للاستثمارات الأجنبية، إلا أن الشراكات الدولية تسارعت بشكل ملحوظ منذ العام 2017، مع تزايد الاستثمارات الخليجية، بخاصة الإماراتية منها. وتعد مجموعة موانئ دبى العالمية (دى بى وورلد) من بين أهم المجموعات التى توسعت فى مصر؛ وإضافة إلى استثماراتها فى 12 ميناء فى إفريقيا، فهى تخطط لإنفاق 3 مليارات دولار خلال السنوات الثلاث المقبلة على البنية التحتية الجديدة للموانئ فى القارة السوداء، لتلبية النمو طويل الأجل الذى يشمل الطلب المتزايد على صادرات المعادن الحيوية.
وفى سياق التأكيد على قوة منصتها التجارية العالمية المتكاملة ومرونتها، أعلنت المجموعة الإماراتية عن تسجيل أداء مالى وتشغيلى قوى فى النصف الأول من العام الحالى، وذلك على الرغم من التقلبات الجيوسياسية والاقتصادية التى يشهدها العالم.
عدنان كريمة
مؤسسة الفكر العربى
النص الأصلى:
https://tinyurl.com/bd82yds
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا