الحب وأشياء أخرى

الأحد 5 أكتوبر 2025 - 8:00 م

يُحكى أن جارية بارعة الجمال، عذبة الصوت، كانت تُدعى «زادمهر»، رآها يوما فتى من بغداد فعشقها، وأخذ فى استعطافها بالمراسلات والمكاتبات، وهى لا تعرف إلا الدنيا والدينار.

وجعل الفتى يصف لها فى رقاعة - جمع الرقعة التى كانت تُستخدم للكتابة عليها - عشقه وسهره فى الليالى، وتقلبه على حر المقالى - والمقالى جمع المقلى، وهو المكان الذى يُقلى فيه الطعام من الفول والحمص ونحوهما - وامتناعه عن الطعام والشراب. فلما أعياه أمرها ويئس من تعطفها عليه كتب إليها رسالة قال فيها: «وإذ قد منعتنى زيارتك، فمُرى بالله خيالك أن يطرقنى ويبرد حرارة قلبى»، فقالت زادمهر لرسولته: «ويحك، قولى لهذا الرقيع أنا أعمل ما هو خير لك من أن يطرقك خيالى، أرسل إلىّ دينارين فى قرطاس حتى أجيئك أنا بنفسى». 

يا ويح الفتى.. فالمرأة التى أحبها وهام بها عشقا ليست سوى عاهرة تعطى جسدها لمن يدفع.

حضرتنى هذه القصة عميقة الدلالات وأنا أستمع لشكوى زميل شاب من فتاة أحبها وظن أنها تبادله حبا بحب، لكنه اكتشف بعد فترة أنها كانت تخدعه، وأن علاقتها به لم تكن سوى محاولة للوصول لرجل آخر أكثر منه ثراءً وأعظم شأنا، وهو ما حدث بالفعل، إذ بعد أن وصلت لمبتغاها، أخبرته أنها لم تكن تحبه، وأنه هو المسئول عن تفسير علاقتهما على هذا النحو، وأنها لم تفكر فيه كحبيب أو زوج على الإطلاق. 

حاولت تهدئة الزميل الشاب، وأعدت على مسامعه قصة الجارية «زادمهر» التى ذكرها أبو المطهر الأزدى فى كتاب «حكاية أبى القاسم البغدادى» والشاهد كما ذكرت لزميلى الشاب أن هناك من النساء من يتصور البعض أنهن من العفيفات الشريفات، فينسج من خياله وهمًا يقوده للوله بهن والوقوع فى غرامهن، غير أن حقيقتهن تكون عكس ذلك تماما.

غير أن أشباه «زادمهر» الجارية ليسوا فقط بين النساء، فهناك رجال كُثر يحملون ذات الصفات، ويخال للمرء أنهم شرفاء غير أن حقيقة سلوكهم وجوهر معادنهم يؤكد خستهم ودناءة أخلاقهم، ولهذا النوع من النساء والرجال حضور طاغٍ وتأثير واسع، وهم - رجالا ونساءً - لديهم قدرة فائقة على التلون وإخفاء حقيقة أخلاقهم بغلالة من الأدب والاحترام الذى لم يطرق لهم يوما بابا.

كنت أواصل الحديث مع الزميل الشاب بينما كانت الشاشة المعلقة أمامنا فى المقهى الذى يجمعنا تبث فيلم «إنت حبيبى» من بطولة شادية وفريد الأطرش وإخراج يوسف شاهين، وكانت الأغنية التى أراها واحدة من أجمل الأغانى وألطفها «يا سلام على حبى وحبك».

فقررت أن أروى له جانبا من قصة هذا الفيلم وكيف كتب؟ ولماذا قبل يوسف شاهين إخراجه، وكيف كانت العلاقة بينه وبين فريد الأطرش وشادية؟ وهى قصص لطيفة بالفعل أخبرنى بها الصديق فيصل الأطرش نجل فؤاد الأطرش، وتصورت أن فيها من الطرافة ما قد يخرج زميلى الشاب من حزنه بسبب خدعة الفتاة التى أحبها، أو تصور أنه يحبها. 

لكنه فاجأنى بسؤال جاد فأبعدنى تماما عما كنت أود الحديث فيه، قال زميلى الشاب: هو إيه الحب ده اللى بيعذبنا؟ أحسن حاجة الواحد يعيش من غير حب ووجع قلب! الحب.. هذان الحرفان المحلقان فى فضاء الكون بلا حدود.

ما الحب؟ سؤال حارت فى الإجابة عنه عقول الفلاسفة والعاشقين.

صاحب «الفتوحات المكية» محيى الدين بن عربى يمتلك تصورا خاصا فى فهم الحب ومعانيه، فالحب عنده فى أحد معانيه وتجلياته هو كما يقول:

«من حد الحب ما عرفه، ومن لم يذقه ما عرفه، ومن قال رويت منه ما عرفه فالحب شرب بلا رى».

إذا يتسع الحب ليشمل كل شىء، هو كرحمة الله وسعت كل شىء، والمحب الحق هو الذى يشمل حبه كل شىء.

أما سلطان العاشقين عمر بن الفارض فيحلق بنا فى فضاء حبه الواسع:

ولقدْ خلوتُ معَ الحبيبِ وبيننا

سِرٌّ أرَقّ مِنَ النّسيمِ، إذا سرَى

وأباحَ طرفى نظرة ً أمَّلتهـــا

فغدوتُ معروفا وكنتُ منكَّرا

فدهشتُ بينَ جمالهِ وجـلالهِ

وغدا لسانُ الحالِ عنى مخبرا

فأدِرْ لِحاظَكَ فى مَحاسِن وَجْهِهِ،

تَلْقَى جَميعَ الحُسْنِ، فيهِ، مُصَوَّرا

يا الله هو الحب الصافى وفيه لا يرى الحبيب سوى حبيبه الذى جمع فى وجهه الحسن.

لقد أخطأت يا زميلى العزيز 

إنه الحب الذى يحيل حياة المحب إلى راحة وسكينة وطمأنينة أبدية.

هو الحب الذى يمنح صاحبه قدرة فائقة على مواجهة موجات القبح المقبضة ولفحات الكره وعواصفه الكريهة.

هل قرأ الإرهابيون إبداعات ابن عربى أو سمعوا نجوى عمر بن الفارض؟

بالتأكيد لا، فهؤلاء لا يعرفون هذا الحب.

هل يمكن أن يتحول المحبون إلى إرهابيين؟

بالقطع لا فمن ذاق قلبه طعم الحب لا يمكن أن يعرف للكره والقتل طريقا.

وواصلت يا زميلى العزيز لا تتوقف كثيرا عند هذه القصة التافهة ولتبدأ من جديد فالحب يفتح للمرء آفاقا واسعة من الجمال الذى لا يعرفه الكارهون والمنافقون والأفاقون.

 

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة