x قد يعجبك أيضا

عمران القاهرة.. بين السلطة الحاكمة ورأس المال وفقراء الشعب

الأحد 5 أكتوبر 2025 - 8:05 م

عمران القاهرة على مدى العصور شكلته فى الأساس قرارات أصحاب السلطة، ونظرا أن القاهرة ليست فقط أحياءها التى يرتادها عشاقها من المصريين والسياح، ولكنها أيضا أحياؤها التى يشغلها من يخدمون هؤلاء العشاق، فقد شارك هؤلاء أيضا فى حياكة نسيجها، ومع نمو القطاع الخاص المصرى وتدفق رءوس أموال خارجية على البلاد ترك أصحاب رءوس الأموال هذه أيضا بصماتهم على المدينة، بل ويخشى البعض أن تمحو هذه البصمات بعض مواقع الذاكرة التاريخية، بل وأن تطيح بما ميز القاهرة كعاصمة تعكس ثقافة المصريين.
أصحاب السلطة وعمارة القاهرة
تاريخ العمران فى القاهرة لا ينفصل عن تاريخ الحكم فيها. نشأة القاهرة التاريخية يعود الفضل فيها لمن حكمها منذ وصول الإسلام إلى مصر، ولن يتسع هذا المقال لاستعراض البصمات التى تركها حكام مصر على عمران القاهرة. تكفى الإشارة لما هو معروف أن القاهرة الحديثة تدين للخديوى إسماعيل بتخطيطها، وأن حكام مصر ممن تبعوه حتى جمال عبد الناصر قد حافظوا عليها، ولكن بدأت مشاكلها فى عهد الرئيس السادات، وتصدى لها مبارك وبعده الرئيس السيسى، ولكن الأخذ بعقلية السوق ودخول القطاع الخاص بمشروعاته فيها يهددان بفقدان الطابع الأصيل الذى ورثته من عهد إسماعيل.
وشهد عهد حسنى مبارك الطويل بداية المواجهة الجادة لمشاكل القاهرة سواء فى تردى المرافق أو تعويضها عما فقدته خلال حكم السادات والعناية بتراثها الفرعونى والإسلامى والانطلاق خارجها. ولكن كل هذه الجهود لم تكفِ لمواجهة آثار النمو السكانى أو التصدى لتحدى البطالة وانتشار الفقر. وهما كانا من بين الأسباب التى أدت إلى ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ التى أطاحت بحكمه.
وقد واجه نظام الحكم الذى خلف عامين من عدم الاستقرار بعد هذه الثورة كل هذه المشاكل، وتميزت مواجهته لها بالكثير من الجرأة والطموح. مسترشدا بنموذج عمرانى يجد أصوله فى الولايات المتحدة الأمريكية وفى دول الخليج، فلحل مشاكل المرور عرفت القاهرة عددا كبيرا من الطرق السريعة ومنها  العلوية، واستكملت مراحل جديدة من الطريق الدائرى، ولم يأبه المشرفون على مشروعات الطرق هذه بأى عقبة يمكن أن تعترض طريقهم، مثل التضحية بمناطق أثرية تمر عليها هذه الطرق، حتى ولو كانت مقابر للمصريين  فقراء وأغنياء أو كانت مدافن لشخصيات تاريخية مصرية أو أجنبية، أو كانت فى حد ذاتها تحفا معمارية، أو حتى مساكن صالحة يقيم بها آلاف من المصريين، ولذلك ثار نقاش واسع حول مسار بعض هذه الطرق العلوية أو حتى الحكمة منها. وأضيف خطان لشبكة المترو، وبدأ العمل فى وسيلة نقل جديدة هى القطار وحيد الخط - مونوريل-، وللنهوض بمرافق العاصمة والبلاد تم التوسع فى إقامة محطات الكهرباء والمياه والصرف الصحى، وخصصت الحكومة موارد كبيرة للقضاء على العشوائيات، ونجحت فى إزالة بعضها وتوفير أماكن بديلة لمن كانوا يقيمون بها، ولكن جاء ذلك فى بعض الأحيان على حساب ازدياد الازدحام فى أحياء كانت مكتظة أصلا، بإزالة مساكن الفقراء ليحل محلها عدد كبير من الأبراج العالية بسكانها الأثرياء دون حساب ما يترتب على ذلك من ازدحام وكثافة النقل والتلوث الناجم عنه، أو اختصار المساحات الخضراء لتوسيع الطرق وإقامة طرق جديدة. وتوسعت المجتمعات العمرانية الجديدة المحيطة بالقاهرة واجتذبت أعدادا مهمة من المصريين الموسرين والقيادات الحكومية، ولكن هذه المجتمعات تفتقر إلى أنشطة توفر عمالة أو توفر العمالة ولكن دون مساكن لمن يعملون فيها. ولذلك فبدلا من تخفيف الزحام على طرق القاهرة أصبح المقيمون فيها يترددون على القاهرة للعمل أو يذهبون خارج القاهرة بحثا عن سكن فانتقل الزحام من وسط القاهرة إلى الطرق المؤدية لهذه المجتمعات. كما تم استكمال مشروعات جرى الاتفاق عليها فى عهد حسنى مبارك مثل متحف الحضارة المصرية والمتحف المصرى الكبير الذى سيجرى افتتاحه قريبا.
ومما سهل على أجهزة الحكومة المدنية أو العسكرية تنفيذ هذه المشروعات حريتها المطلقة فى التعامل مع الأرض الفضاء داخل العاصمة أو خارجها ومن بين صور استخدام هذه الأراضى الفضاء إقامة مراكز تسوق تجارية (مولات) التى زاد عددها داخل القاهرة وفى المجتمعات العمرانية الجديدة. بل امتد هذا الموقف إلى أجهزة الدولة الأخرى والهيئات التى تربطها بها علاقات طيبة. التى تنافست لامتلاك نوادٍ على شاطئ النيل الذى أصبح فى القاهرة محجوبا عن أغلبية المصريين، ففقدوا حقهم فى الفسحة البريئة التى كانت متاحة لهم على امتداد العهود السابقة، وخلافا للنص الدستورى فى مادته ٤٤ التى تكفل حق المصريين فى التمتع بالنيل.
القطاع الخاص وعمران القاهرة
أخذ دور القطاع الخاص فى عمران القاهرة يتسع مع الأخذ بسياسة الانفتاح الاقتصادى فى سنة ١٩٧٤، وخصوصا فى عهد الرئيس حسنى مبارك من خلال تشييد مشروعات سكنية فى المجتمعات العمرانية الجديدة بواسطة الشركات العقارية الخاصة الكبرى، وبالقيام بدور غير مباشر فى تنفيذ مشروعات المرافق والطرق التى تولت الإشراف عليها أجهزة الدولة. كما أن المراكز التجارية الجديدة والمتعددة فى القاهرة والمجتمعات العمرانية المحيطة بها هى فى معظمها ملك لشركات مصرية أو عربية. وعلى عكس الفكرة الأصلية فى إقامة هذه المراكز والتى بدأت فى الولايات المتحدة الأمريكية وهى أن تكون هذه المراكز فى أماكن قريبة خارج المدن، حتى تتوافر مساحات كافية لأنشطتها المتعددة والمترددين عليها. ولكن تعددت هذه المراكز فى أحياء مكتظة أصلا مثل مدينة نصر ومصر الجديدة والزمالك مما يلقى عبئًا على المترددين عليها وعلى سكانها. إلا أن وجود القطاع الخاص فى هذه الأنشطة اقترن أيضا بسيادة عقلية السوق التى لا تسترشد إلا بحافز الربح، وتضحى من أجل ذلك بكل الاعتبارات الأخرى، وإذا كان ذلك مقبولا فى قطاعات الإنتاج والخدمات فى ظل دور حاضر وفعال للدولة أما فى مجال العمران فالاسترشاد باعتبارات المكسب المالى وحدها يتضمن مخاطر عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على ذاكرة المدينة أو طابعها الحضارى.. ونظرا لأن هناك توقعات بأن يتسع دور الشركات العقارية المصرية والعربية فى استغلال منطقة وسط القاهرة بعد انتقال العديد من الوزارات والهيئات الحكومية إلى مقارها الجديدة فى العاصمة الإدارية، وصدور قانون إيجارات المساكن الجديد والذى يسمح للملاك باستعادة الشقق المؤجرة بعد سبع سنوات من بدء عقد الإيجار والارتفاع المتوقع فى إيجارات المساكن بموجب هذا القانون، وربما يؤدى ذلك إلى شراء هذه الشركات لمبانٍ عديدة فى وسط القاهرة الخديوية يعجز سكانها عن دفع الإيجارات الجديدة، وقد طرح بعض المتطلعين لامتلاك مساحات واسعة فى وسط القاهرة تصورهم لمستقبل هذه الأماكن، وهو نقل نموذج العمران فى دول الخليج، وهو أصلا نموذج مستورد من الولايات المتحدة، إلى وسط القاهرة، بتحويلها إلى فنادق ومراكز تجارية وأماكن للترفيه. بل وقد انتقلت عقلية السوق هذه لكبار المسئولين الحكوميين الذين يحتفلون بإمكانية زيادة موارد الدولة، التى تعانى عجزًا فى ماليتها العامة، عن طريق مثل هذه المشروعات. وتجسد مثل هذا الخطر فيما ورد فى الصحف عن عزم شركات خليجية على تحويل العمارة التى تحتل مقهى ريش طابقها الأرضى إلى فندق فاخر. مقهى ريش كانت ملتقى الثوار فى ثورة ١٩١٩، وملتقى كبار المثقفين للتحاور عبر عقود عديدة ومنهم نجيب محفوظ وغيره ممن تركوا بصمة بارزة فى تاريخ مصر الأدبى.
فقراء الشعب وعمران القاهرة
الحديث عن عمران القاهرة يغفل عادة دور الفقراء فى هذا التاريخ. وهذا مفهوم لأن هؤلاء الفقراء كانوا بعيدين فى أحيائهم عن الأحياء التى جذبت الاهتمام لمدينة القاهرة، أو هم يترددون عليها نهارا للعمل ولا يقيمون فيها. ولكن ضيق فرص كسب القوت أمامهم دفعهم للانتقال ببعض أنشطتهم منذ أواخر القرن الماضى إلى الوسط التجارى للعاصمة وبعض أحياء الطبقة الوسطى فيها، وكان انتقالهم كثيفا بحيث احتلوا ليس فقط قارعة الطريق ولكن امتدت بضاعتهم إلى نهر الطريق مما شكل إزعاجا لدى أصحاب المحال التى احتلوا أرصفتها. وتحمل عهد مبارك والفترة الانتقالية بعد ثورة يناير هذا المشهد الجديد، وتعامل معه نظام الرئيس السيسى بجهاز الشرطة فى بعض الأماكن وخصوصا وسط العاصمة ومؤخرا فى مصر الجديدة، وتبذل أجهزة الإدارة المحلية جهودًا فى الوقت الحاضر لتوفير أماكن بديلة لمن احتلوا ميدان العتبة وأحاطوا بالمسرح القومى.
ولكن كل هذه الجهود لا تعالج سبب هذا الزحف من الفقراء إلى أحياء الطبقة الوسطى ومراكزها التجارية. جذور المشكلة تنبع من نمط التنمية الرأسمالية المتبع منذ عقود، والذى أخفق فى توفير فرص العمل اللائق والدخل الكريم لملايين من الشباب المتعلم الذى لا يجد فرصة للكسب إلا حيث يوجد أصحاب الدخول القادرين على الإنفاق، وهم لا يذهبون إلى أحياء الفقراء، ولذلك ذهب الفقراء إليهم. ونظرا لأن نمط التنمية الرأسمالية مستمر فسوف يستمر سكان أحياء الطبقة الوسطى أجهزة الدولة المعنية فى مواجهة زحف الفقراء لكل هذه الأماكن.

 

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة