x قد يعجبك أيضا

من مدن الملح لفك الحصار عن غزة

الأحد 5 أكتوبر 2025 - 8:00 م

حين تُغلق الحدود، يبدو البحر هو الأكثرَ اتساعًا، فكان هو، وكانوا هم الذين عرف أجدادُهم معنى العيش متلاصقين بالبحر وموجه وملحه أيضًا. هم نساء ورجال من الخليج، خليجيون يحملون صفةً واحدةً وشغفًا بفك الحصار عن غزة، بل عن كل فلسطين.

• • •

من الكويت جاءت سرديةُ «الذهاب» القديمة: بلد صغير فى الجغرافيا، كبير فى التجربة، يعرف معنى أن تُغلق الحدود فى وجهك، وأن تبقى لك البحار. ومن البحرين، حيث تعلّمت الأجيال قديمًا صناعة اللؤلؤ على أناةٍ ومسافة، كانت الحكايةُ أكثر تعقيدًا: بلد ضيّق على التظاهر، متسع فى الحنين إلى فلسطين. ومن عُمان كانت المشاركة كأنها استدعاء لذاكرةٍ غنية، فقد عرف العُمانى والعُمانية البحرَ كما يعرف البدوىُّ الصحراء. من مسقط وصُحار وصُور انطلقت أساطيلها الضخمة تحمل البخور والتمور والنحاس، وتعود بالتوابل والحرير والعاج. لقد شكّل البحر لأهل الكويت والبحرين وعُمان طريقًا للمعرفة والتجارة والسياسة معًا.

• • •

حين جلس الخليجيون والخليجيات على سطح قاربٍ متواضع متجهين لكسر الحصار عن غزة، كانوا يسمعون صدى تلك الأشرعة القديمة التى جابت المحيطات، وأدركت أن للبحر وظيفةً أعمق من مجرد الملاحة، فهو مساحةُ وصلٍ وجسرٌ يحمل قيمَ التضامن كما يحمل البضائع.

• • •

من هنا، من مدن الملح كما سماها الرائع عبد الرحمن منيف، خرجوا: شبّان ونساء من البحرين والكويت وعُمان، ومن بلادٍ كثيرةٍ أخرى، يشدّون على حبال الأمل، ويُبحرون نحو غزّة التى صارت مجازًا للجرح العربى ووجهًا للعدالة المؤجَّلة. أكثر من أربعين قاربًا مدنيًّا تقدّموا فى صفٍّ طويلٍ شبيهٍ بسربٍ من النوارس أو ربما من الملائكة، يحملون دواءً وخبزًا وكاميراتٍ وشهاداتٍ. برلمانيون وصحفيون ومحامون وناشطون، يقارب عددُهم الخمسمائة، تشدّهم فكرةٌ بسيطة: أن تكون السفينة وسيلةً ليس للهجرة من واقعٍ مؤلمٍ ومُذلّ، ولا للنجاة الفردية، بل جَمعًا لفك الحصار. كانت تلك ذروةَ صيفٍ طويلٍ من المحاولات، نجا بعضها من القصف والتهديد، وتعطّل بعضها الآخر فى موانئ تونس وسواحل إيطاليا، لكنه واصل شدَّ حباله وعمق إيمانه بعدالة ما يقوم به من عملٍ إنسانى.

• • •

لم يكن البحر محايدًا، حتى لو أراد، فقد تقدّمت كل قوى الإبادة من هناك لترسل طائراتِها المسيّرة التى راحت تُطارد سفنَ الأسطول واحدةً تِلوَ الأخرى، واستخدمت كل الوسائل من ضرباتٍ وهزّاتٍ وربما العبث بمحركات بعض القوارب كما ذكرت بعضُ الوسائل. هم قراصنةُ الأرض والبحر، بل هم من يُتقنون فنَّ مطاردة الأرواح الحرّة والبريئة. ورغم ذلك، تحرّكت المراكب محمّلةً بالكثير من المحبة والأمل، تحمل معها أصواتَ شعوب الأرض.

 

• • •

سفنُ الصمود انتقلت من بنزرت التونسية ومن أوغستا فى صقلية، ثم عبرت ما أسماه الناشطون «المنطقة الصفراء»، وهى التى تصبح فيها احتمالاتُ القرصنة والخطف والاعتراض من قِبل الصهاينة أكثرَ احتمالًا.

• • •

فى ساعاتٍ متأخرةٍ من ليل الأربعاء، فجرَ الخميس، الماضيين خرجت سلوى جابر من بوابة القادمين فى مطار البحرين. كانت سلوى أولَ العائدين بعد أن تعطّل قاربُها أكثر من مرة. وقفت، رغم التعب والقلق على رفاقها ورفيقاتها الذين تركتهم هناك. لم يكن المطار فى ذلك المساء مكانًا للعبور العابر، بل مسرحًا صغيرًا للذاكرة. أضواؤه البيضاء انعكست على وجوهٍ جاءت تحمل الورود، وتلوَّن المكان بعبق الرازقى البحرينى والمشموم الذى طالما زيّن الأفراح فى بلدها الصغير.

• • •

عرفت حينها أنه فى طريق عودتها تحرّكت القطعُ البحرية الإسرائيلية فى تشكيلٍ مُحكم، وأُطفئت محركاتُ القوارب تباعًا. أُوقفت واحدةٌ وأُسرت أخرى، وانقطعت الاتصالات عن ثالثةٍ كانت على بُعد تسعة أميالٍ من شاطئ غزة، قبل أن يُعلن صباح الثالث من أكتوبر اعتراض القارب الأخير «ماريـنيت» على مسافة ٤٢٫٥ ميل بحرى من الساحل، وهو أقرب مدى منذ بدء الحصار البحرى عام ٢٠٠٩.

• • •

اختطف الصهاينةُ كلَّ النشطاء على متن القوارب فى موقفٍ مخالفٍ لكل القوانين الدولية التى داسها الصهاينة منذ أكثر من سبعين عامًا. رفضت سلوى الاحتفالَ بعودتها من قِبل أصدقائها وصديقاتها، وقالت: «لن يكون ذلك حتى يطمئنَّ قلبى وقلوبكم جميعًا عند الإفراج وعودة كل النشطاء»، وهم أكثر من أربعمائة شخصٍ من أكثر من سبعٍ وأربعين دولة، ومنهم الخليجيون: أمامة اللواتية، محمد عبد الله حسين، سامى عبد العزيز، عبد الله المطوّع، د. محمد جمال، خالد العبد الجادر.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة