x قد يعجبك أيضا

أحرار وعبيد في اختبار غزة

الأحد 5 أكتوبر 2025 - 8:05 م

رغم خلافه مع العرابيين ومخاوفه من أن «اندفاعهم» قد يجر البلاد إلى التدخل الأجنبى، انضم الإمام محمد عبده إلى الثورة العرابية، ووضع يده فى أيديهم «لأن الواقعة قد وقعت، وكان ما خاف أن يكون، فلم يسعه إلا أن يكون مع قومه — ولو كانوا مخطئين — على الغريب المحتل». 

وعندما اندلعت المواجهات العسكرية - غير المتكافئة - بين جيش عرابى والجيش البريطانى فى الإسكندرية وكفر الدوار ثم فى التل الكبير، لم يدع عبده الحكمة بأثر رجعى ليؤكد أن تحذيره كان فى محله، بل حسم موقفه ودعا إلى مواجهة الاحتلال وكشف خيانة الخديوى توفيق الذى «أساء إلى بلاده أبلغ السوء، وانضم أيام الحرب إلى أعدائها».

ولما فشلت الثورة ودخل الإنجليز القاهرة؛ وأُلقى بالقبض عليه وأحيل إلى المحاكمة مع قادة الثورة، لم يتنصل عبده من رفاقه، بل كتب فى المذكرة التى رفعها إلى هيئة المحكمة: «هل يقدر أحد أن يشك فى كون جهادنا وطنيا صرفا بعد أن آزره الجميع بحماس غريب، وبكل ما أوتوا من حول وقوة، لاعتقادهم أنها حرب بين المصريين والإنجليز؟».

الحكم بالنفى لم يفت فى عضده، إذ ظل الشيخ ثابتا على موقفه وأكمل حملته على الاحتلال وعلى الخديوى «الخائن»، وبالفعل لم يعد إلى البلاد إلا بعد انقضاء مدة نفيه بخمس سنوات.

وكما خلّد التاريخ عرابى ورجاله لأنهم ثاروا على الظلم وواجهوا المحتل بما تيسر لهم من عتاد وعدة، وضع الإمام محمد عبده فى مكانة خاصة لأنه وإن اختلف فى وجهة نظره، انحاز إلى الثورة ودفع الثمن راضيا قانعا.

 وكما كان هناك عرابى ورفاقه من أمثال محمد عبيد وحسن رضوان وأحمد فرج، ومعهم الإمام محمد عبده، الذين دفعوا ضريبة الوطن من دمائهم وحريتهم، كان هناك أيضا محمد باشا سلطان وسعيد الطحاوى وعلى يوسف المعروف بـ«خنفس باشا» وغيرهم من العملاء الذين برروا خيانتهم وعمالتهم، بالضعف وعدم التكافؤ بين قوات بلادهم والقوات الغازية، واعتقادهم أن الإنجليز سيخمدون «هوجة عرابى» ثم يرحلون بعد تثبيت حكم توفيق.

فى كل عصر رجال يحاربون ويثورون ويواجهون؛ وهناك أيضا أشباه وعملاء وانهزاميون يبررون الاستسلام ويزايدون على الرافضين للظلم، يستكثرون على المقاومين تضحياتهم، ويتعاملون معهم على أنهم مهاويس مجانين، يدعون الحكمة والعقل، وفى الواقع هم ضعاف النفوس قليلو الحيلة؛ يستسهلون التسامح مع الأعداء ويقبلون الضيم والذل، ويشيعون الفاحشة، والفاحشة هنا هى الانحناء والركوع للظالم المعتدى.

يهيل هؤلاء الأشباه التراب على كل قيمة تحرض على المقاومة، يشوهون رموز الكفاح الوطنى مع سابق الإصرار والترصد، وهدفهم تفريغ فكرة المقاومة من مضمونها، وكى وعى الأمة حتى تتصالح مع الهزيمة وتقبل بسيادة أعدائها.

منذ بدء العدوان على غزة، تسلل الفريق الأخير إلى المنصات الإعلامية ومع الوقت صار خيارا مفضلا لبعضها، يدعى هؤلاء أن «التطبيع» مع العدو المجرم خيار عقلانى؛ يصورون الكفاح والموت فى سبيل الحرية على أنه موت مجانى وعبء لا طائل منه، ويزينون للناس الخضوع باعتباره الممكن الوحيد.

ورغم أن جرائم عدونا فى حقنا لا تسقط بالتقادم، يطالب هذا الفريق الناس، بطى الصفحة ونسيان ما ارتكبه العدو من مجازر فى حق أهلنا، وكأن المطلوب منا طمس ذاكرتنا النضالية مع عدو لا يزال يمارس جرائمه وينتظر اللحظة التى ينقض فيها علينا مجددا.

اللافت أن شهادات بعض أعدائنا من عتاة الصهيونية ترسخ قيمة المقاومة فى تاريخ الشعوب. فقبل ثلاثين عاما، سأل الصحفى جدعون ليفى رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق إيهود باراك «ماذا لو كنت فلسطينيا؟»، فأجاب: «لو ولدت فلسطينيا ربما انضممت إلى إحدى حركات المقاومة»، وهو ما كرره الرئيس السابق لـ«الشاباك» عامى أيالون إذ قال بصراحة: «لو كنت فلسطينيا لقاتلت دون حدود ضد من يسرق أرضى»، مضيفا: «لقد سرقنا أرضهم وسيواصلون القتال ضدنا.. الفلسطينيون مستعدون للقتال ليس فقط من أجل الطعام، ولكن من أجل إنهاء الاحتلال».

سيذكر التاريخ أهل غزة أنهم رغم القصف والتجويع والإبادة ظلوا صامدين مقاومين متمسكين بالأرض، على خطى أسلافنا من أحرار هذه الأمة، أما دعاة الاستسلام والانهزام الذين باعوا ضمائرهم بالبخس، فمكانهم محجوز مع سلطان وخنفس وغيرهم من الخونة والعملاء.

غزة التى تتعرض لحرب إبادة منذ عامين، صارت اختباراحقيقيا يكشف معادن الرجال، فهناك من اختار الكرامة مهما كان الثمن، وهناك أشباه اختارو الذل..

هناك أحرار، وهناك عبيد.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة