الثورة الهادئة.. كيف يتخيل الأفارقة مستقبل قارتهم؟
الإثنين 27 أكتوبر 2025 - 8:12 م
نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا للكاتب حمدى عبدالرحمن، يؤكد فيه على أن مفتاح مستقبل إفريقيا ونجاحها فى مواجهة التحديات يكمن فى ابتكار منهج تنموى إفريقى أصيل يجمع بين الاستشراف الاستراتيجى، والتحليل الدقيق، والوعى الثقافى.. نعرض من المقال ما يلى:
تواجه الدول الإفريقية تحديات جمة، تشمل عدم الاستقرار السياسى، والإرهاب، والصراعات العنيفة المسلحة، والاضطرابات الاجتماعية، والأزمات الاقتصادية. ويقينا تتطلب هذه المشكلات المعقدة مناهج شاملة تراعى حلقة الوصل فيما بينها. ومع ذلك وعلى الرغم من هذه التحديات؛ تفوقت بعض الدول الإفريقية فى مجال الريادة والابتكار؛ أى ثمة وجه آخر يدعو للتفاؤل. فعلى سبيل المثال، تُعدّ كينيا اليوم رائدة عالمية فى مجال المدفوعات عبر الهاتف المحمول، وأقامت نيجيريا العديد من شركات التكنولوجيا المالية الناشئة وصغيرة الحجم. كما تكتسب الصناعات الإبداعية فى إفريقيا، من الموسيقى إلى الأفلام، شهرة عالمية.
وعليه يُعدّ الاستشراف أمرا بالغ الأهمية لمساعدة إفريقيا على اجتياز هذه التحولات المعقدة بنجاح. ويصبح السؤال الأكثر إلحاحا هو: هل ستنتصر إفريقيا فى مواجهة الهجمات الإرهابية وتقلبات المناخ؟ تعتمد الإجابة بالقطع على الإجراءات المتخذة، وخاصة من قِبل أولئك الذين يملكون القدرة على التصرف. وهنا يصبح التوقع والتصرف أمرين أساسيين؛ حيث يصبح الاستشراف أمرا بالغ الأهمية. وللدول الإفريقية باع طويل فى التخطيط التنموى والاستشراف، إلا أن وثائق الرؤية غالبا ما تبقى منفصلة عن تطبيق السياسات. ويتمثل التحدى اليوم فى دمج الاستشراف وتعميمه، وجعله جزءا لا يتجزأ من إدارة التنمية فى إفريقيا.
ولا يخفى أن إفريقيا تقف اليوم عند مفترق طرق تاريخى فريد. فبينما صورت نماذج التنمية التقليدية القارة فى الغالب الأعم من منظور عفا عليه الزمن يتمحور حول التحديات والعجز، تبرز ثورة هادئة فى المؤسسات والجامعات ودوائر السياسات الإفريقية. تدور هذه الثورة حول إدراك متزايد الأهمية بأنه يجب أن يتخيل الأفارقة أنفسهم مستقبل إفريقيا ويصمموه ويبنوه، على شاكلة الكاتب السنغالى فلوين سار و«عالم أفروتوبيا» باستخدام أدوات تجمع بين التحليل الدقيق وتقاليد السرد القصصى الغنية التى شكلت القارة لآلاف السنين. ويركز هذا المقال على أربعة مرتكزات أساسية يمكن من خلالها أن يتصور الأفارقة مستقبل قارتهم.
1- تجاوز لغة الأرقام:
لقد هيمنت على خطاب التنمية فى إفريقيا أطرٌ مفروضة من الخارج تُعطى الأولوية للنمذجة الإحصائية على التجارب الحياتية والحكمة الثقافية. وبينما لا تزال هذه النمذجة الكمية ضرورية لفهم الاتجاهات الاقتصادية والتحولات الديمغرافية؛ يُدرك أكثر المفكرين والمبدعين فى القارة أن التحول المستدام يتطلب شيئا أعمق من الذهاب وراء لغة الأرقام؛ أو بمعنى آخر سرديات وأصوات تُجسّد تطلعات المجتمعات الإفريقية وقيمها وذكائها الجماعى. وفى هذا المقام تُظهر مجموعة أدوات التخطيط الاستراتيجى والاستشراف، التابعة للآلية الإفريقية لمراجعة الأقران التى تأسست عام 2003، وتم اعتمادها من قبل 14 دولة إفريقية عام 2024، هذا التحول فى الممارسة؛ وهو عكس مناهج التخطيط التقليدية التى تعتمد بشكل أساسى على المؤشرات الاقتصادية؛ إذ تُشدد مجموعة الأدوات التى تتبناها الآلية على أهمية عمليات التشاور الشاملة، والأطر الثقافية لتصميم السياسات، واستراتيجيات التواصل التى تتوافق مع السياقات الإفريقية المتنوعة.
وتمثل الخطة الاستراتيجية 2025–2028 للآلية قفزة نوعية عبر إطلاق برامج جديدة لتعزيز قدرات التخطيط طويل المدى، والحوكمة الإلكترونية، وأنظمة الإنذار المبكر، وإشراك المجتمع المدنى. كما تُدمج الخطة مع أجندة 2063 والأهداف العالمية للتنمية المستدامة، ولا سيما هدف السلام والعدالة، وخطة التنفيذ العشرية الثانية لأجندة 2063. وليس بخافٍ أن هذه المقاربة تعكس فهما متزايدا بأن الاستشراف الفعال يتطلب ما يسميه الباحثون «استشرافا خياليا يربط بين قيم وتطلعات عالم الواقع».
• • •
2- بناء السرد الإبداعى:
ما زلت أتذكر وصية أستاذى، إدوارد عازار، والذى كان من أبرز رواد التحليل الكمى فى العلاقات الدولية حينما أكد أنه ينبغى أن نتعامل بحذر مع لغة الأرقام. لقد عانت عملية تخطيط التنمية فى إفريقيا من الفجوة التقليدية بين التحليل الكمى «الصارم» والسرد الكيفى «اللين». وفى هذا السياق تظهر أمامنا تجربة شبكة ممارسى استشراف الجيل القادم فى إفريقيا، التى أُطلقت عام 2023، وتضم أكثر من 150 شابًا من خبراء استشراف المستقبل من أكثر من 25 دولة إفريقية، وهم يعملون معًا على تطوير منهجيات استشراف مستقبلى خاصة بكل سياق، وذلك لإثراء السياسات والممارسات. ويستخدم أعضاء الشبكة ورش عمل تشاركية لبناء السيناريوهات، ورواية قصصية إبداعية -بالاعتماد على السرديات المحلية والفنون والوسائط الرقمية ــ لترجمة البيانات المعقدة إلى رؤى مستقبلية ذات صدى ثقافى؛ مما يعزز فهم صانعى السياسات للمخاطر والفرص طويلة الأجل.
• • •
3- تمكين رواد التغيير الأفارقة:
لعلّ أهم مساهمة للسرد القصصى الإبداعى فى استشراف المستقبل الإفريقى تكمن فى قدرته على إبراز أصواتٍ لطالما هُمّشت فى مناقشات السياسات. وهنا تبرز أهمية برنامج زمالة «صانعى التغيير الأفارقة» القادة الناشئين الذين تتراوح أعمارهم بين 21 و40 عاما من جميع أنحاء إفريقيا وجالياتها فى الشتات من خلال منهج دراسى افتراضى مدته خمسة أسابيع فى ريادة الأعمال، والمشاركة المدنية، وإدارة المشاريع، وأطر عمل الاتحاد الإفريقى، بما فى ذلك أجندة 2063. ويجمع البرنامج بين وحدات التعلم الإلكترونى التفاعلية والإرشاد الفردى والوصول إلى شبكة خريجين إفريقية؛ مما يُمكّن المشاركين من ترجمة أفكارهم إلى مشاريع قابلة للتطوير. وتشير تقييمات المجموعة السابعة إلى أن أكثر من 80% من الزملاء أطلقوا مبادرات مجتمعية وحافظوا على تعاون نشط مع أقرانهم ومرشديهم بعد ستة أشهر من إتمام البرنامج. وبالمثل، أوجدت منتديات ممارسى استشراف الجيل القادم فى إفريقيا فضاءات أرحب تُتيح للشباب الأفارقة مشاركة تحديثات خاصة بكل بلد، تؤسس لسرديات غنية من الواقع المُعاش؛ الأمر الذى يُثرى الحوار القارى. وتدمج هذه المنتديات عمدا تحليل السياسات مع سرد القصص الشخصية، مُدركةً أن الاستشراف الفعّال يتطلب فهماً ليس فقط لما قد يحدث، بل أيضا كيفية تجربة المجتمعات المختلفة للتغيير واستجابتها له.
• • •
4- سد الفجوة بين البحث العلمى والواقع:
يُمثّل الانفصال بين مؤسسات البحث العلمى فى البلدان الإفريقية وعمليات صنع السياسات أحد التحديات المُستمرة فى التنمية الإفريقية. فغالبا ما يفشل البحث الأكاديمى التقليدى فى التأثير فى السياسات، ليس بسبب تحليل غير كافٍ؛ بل بسبب ضعف التواصل الذى لا يتوافق مع الواقع السياسى أو الفهم العام. وفى هذه الحالة يُقدم السرد القصصى الإبداعى جسرًا قويًا لسد هذه الفجوة. وقد أظهرت مبادرة «من الأدلة إلى العمل والبحث فى شرق وجنوب إفريقيا» كيف يُمكن لتوليف البحث، إلى جانب السرديات الجذابة، أن يُنشئ علاقات جديدة هادفة مع صانعى السياسات ومنظمات المجتمع المدنى. فبدلاً من مجرد عرض البيانات، يتطلب الانخراط الناجح فى السياسات قصصًا تُساعد صانعى القرار على فهم كيفية ارتباط نتائج البحث بالتجارب الحية لمواطنيهم. وقد وجد تقييم أُجرى عام 2025 أن خدمات التجميع السريع للأدلة التى تقدمها المبادرة قد قلصت المدد الزمنية لقرارات السياسات بنسبة 40% فى المتوسط، بينما زادت ورش العمل المصممة خصيصًا لأصحاب المصلحة من ثقة صانعى السياسات فى استخدام البحوث بنسبة 65%. ومن خلال نشر منتجات التجميع الخاصة بكل سياق ــ مثل ملخصات السياسات والرسوم البيانية ولوحات المعلومات التفاعلية ــ تمكنت هذه المبادرة من سد الفجوة بين البحث الأكاديمى الدقيق والتطبيق العملى للسياسات.
فى الختام يمكن القول إنه مع توجه إفريقيا نحو عام 2030 وما بعده، يُتيح دمج السرد الإبداعى فى عمليات الاستشراف والتخطيط فرصًا غير مسبوقة للتنمية الشاملة القائمة على الثقافة. ولن تكون القصص التى تصوغها المؤسسات والمبادرات السابقة الإشارة إليها مجرد تمارين أكاديمية أو وثائق سياسات تُهمل على رفوف المؤسسات؛ بل ستكون سرديات حية تُساعد المجتمعات الإفريقية على فهم دورها فى تشكيل التحول القارى، وتُساعد صانعى السياسات على ربط قراراتهم بتطلعات مجتمعاتهم، وتُساعد المجتمع الدولى على فهم إفريقيا كمصدر للابتكار لا كمتلقٍّ للمساعدة. والأهم من ذلك، ستُظهر هذه القصص أن مستقبل إفريقيا ليس أمرًا يحدث للقارة فحسب؛ بل هو شىء يصنعه الأفارقة أنفسهم بنشاط للوصول إلى «عالم أفروتوبيا». وفى عالم يتزايد فيه عدم اليقين والتغير السريع؛ قد يثبت هذا المزيج من السرد الإبداعى والاستشراف الاستراتيجى أنه إحدى أهم مساهمات إفريقيا فى ممارسات التنمية العالمية.
النص الأصلى:
https://tinyurl.com/36j7b75h
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا