اعتدتُ أن أتبادل الروايات مع الكاتب الصحفى الكبير الأستاذ فهمى هويدى. شئ ما لا أعرفه سحب علاقتنا إلى هذه المنطقة التى هى فى الأصل ليست التخصص الأصيل لكلينا، لكن الذى أعرفه أن هذه المنطقة لم تصبح فقط منطقة "آمنة" لأحاديثنا بل أصبحَت كذلك منطقة لطيفة. وقبل فترة، وفى إحدى مكالماتنا حول الروايات الجديرة بالقراءة نصحنى أستاذ هويدى بأن أقرأ لكاتب فلسطينى اسمه باسم خندقچى فوعدته أن أفعل. وعندما قرأتُ اسم باسم خندقچى بين الأسرى المحررَين فى صفقة التبادل الأخيرة مع إسرائيل، تذكَرت حديث أستاذ فهمى هويدى. أما حين طالعتُ عديد اللقاءات والحوارات التى تم إجراؤها معه منذ وصوله إلى القاهرة- أدركتُ أن المسألة تتجاوز الإنتاج الأدبى الرفيع لروائى وشاعر فلسطينى إلى النموذج الوطنى الفذّ الذى يقدمه هذا الإنسان، وبالتالى فإن هذا المقال هو عن الرسالة وراء سيرة باسم خندقچى وليس عن موهبته وإن فازت إحدى رواياته بجائزة البوكر العالمية.• • •مبدئيًا نحن إزاء شخص أُسر فى عام ٢٠٠٤ وهو فى الحادية والعشرين من عمره، وحُرّر وهو فى الثانية والأربعين من عمره، أى أنه قضى نصف حياته بالتمام والكمال داخل سجون الاحتلال أو سجون الاستعمار كما يفضّل خندقچى القول. وأن يكون خندقچى قد اعتُقل عام ٢٠٠٤ فإن هذا يعنى أنه غاب تمامًا عن المشهد الفلسطينى الذى تشكّل بعد وصول حركة حماس للسلطة فى قطاع غزة، وبالتالى لا يمكن حسابه عليها ولا إلصاقه بها لصقًا مفتعلًا. وتلك النقطة لابد من التأكيد عليها إذا ما أريد للسلام أن يحّل فى هذه المنطقة المنكوبة من العالم، فالقضية تكمن فى استعمار الأرض وليس فى ظهور حماس، ولذلك فإن المقاومة مستمرة حتى لو اختفت حماس من الوجود. كذلك فإن تغييب خندقچى فى السجون الإسرائيلية يسبق وصول النفوذ الإقليمى الإيرانى لذروته بمناسبة حرب تموز فى ٢٠٠٦، وبالتالى يصعب حساب الرجل أيضًا على إيران، صحيح أن هذا النفوذ قد انتعش مع الاحتلال الأمريكى للعراق فى ٢٠٠٣، لكن انكسار مشروع الشرق الأوسط الإسرائيلى الجديد فى لبنان- رفع النفوذ الإيرانى إلى القمة. وفى هذا السياق الإقليمى دخل خندقچى إلى المعتقل كفلسطينى صاحب قضية وطنية عادلة ولا شئ غير ذلك، نقطة من أول السطر.• • •لا تنتمى كتابات خندقچى إلى ما يُعرف باسم أدب السجون، فهو لا يكتب عن الحياة داخل زنزانته كما فعل العديد من كبار الأدباء حول العالم. لكنه يكتب أدبًا يسميه ضد كولونيالى، وتتجلّى المعضلة بالنسبة له فى كيفية كتابة نص ضد كولونيالي/استعمارى فى سياق كولونيالي/استعمارى. وأظن أن ما ذكره خندقچى يمثَل جزءًا حقيقيًا من المعضلة لكنه ليس كلها، فمبدئيًا أن يجيّر الأديب قلمه لينتج روايات تخدم مشروعه الوطنى فإن هذا بحد ذاته ينطوى على إشكالية ما. فكل عمل أدبى رئته الحرية، وكثيرًا ما نستمع لأدباء يحكون عن تجاربهم فى الكتابة وكيف أخذهم القلم إلى طريق لم يفكروا فى ارتياده، وأملى عليهم نهاية لم يخططوا لها. بعبارة أخرى هناك معضلة حقيقية فى التوفيق بين المشروع الوطنى بما يمليه من التزام وبين شيطان الإبداع بما يسكنه من تمرد، لكن خندقچى على أى حال ليس أول مَن واجه ذلك، فلقد فعلها من قبل غسان كنفانى ومحمود درويش ومريد البرغوثى وآخرون، ومع ذلك فالجمع بين النقيضين لا يقدر عليه كل أحد. كذلك فإن تدفق الإنتاج الأدبى فيه معضلة، فنحن إزاء أديب أنتج فى أسره ديوانّى شعر وست روايات، بينما الأدب مثلما يحتاج إلى خيال فإن جزءًا منه مستوحىً من ذات الأديب وتجاربه فى الحياة وخبراته فى القراءة والسفر وأشياء أخرى كثيرة، فمن أين لحبيس الزنزانة المعتمة والمحاصَر حتى تعمّد الخنق- أن يتجلّى ويتخيَل ويأتيه الإلهام؟ هذا أيضًا ليس بالأمر الهيّن. يحكى الأسير المحرر باسم خندقچى كيف تكالب عليه سجانوه بعد فوزه بجائزة البوكر العالمية، ضيقوا عليه ونكّلوا به وأوسعوه ضربًا، والأهم أنهم صادروا كل ما بحوزته من أدوات التعبير: الورق والقلم، حتى لم تعد لديه نقطة حبر واحدة، فهؤلاء القوم يعاملون السطور معاملة الطلقات بالضبط، بل إن عداءهم للسطور أغلظ وألّد لأن الأمر كله عبارة عن صراع على الذاكرة. يريد المحتلون محو هوية الناس والبيوت ومزارع الزيتون، ويأبى أصحاب الأرض إلا الكتابة عن الخرائط والتراث وتاريخ العائلات، وفى هذه المساحة تتمدد بامتياز كتابات المفكر الفلسطينى الشهير الدكتور سلمان أبو ستة الذى صدرَت له مؤخرًا الترجمة الإنجليزية لمذكراته تحت عنوان "رسم خريطة عودتي".. ويا له من عنوان. أفتح قوسين لأنقل عن أستاذ فهمى هويدى أن سلمان أبو ستة الذى تلقى تعليمه فى القاهرة كان أشطر تلاميذ فصلهما بمدرسة حلوان الابتدائية - بنين خلال أربعينيات القرن الماضى.• • •حين أطبق السجانون على خندقچى وجردوه من كل شئ، لم يجد إلا ذاكرته يودعها روايته عن صديق عمره وليد دقة الأسير الذى لم تشفع إصابته بالسرطان فى تحريره من الحبس وإن لم يبق له فيه سوى عام واحد، فهؤلاء القوم قلوبهم "كالحجارة أو أشدّ قسوة". وفى أحد حوارات خندقچى بعد تحريره قال إنه سيفرغ سطور الذاكرة على الورق لكن بعد شهر أو شهرين يكون قد حصل فيهما على قدرٍ من الراحة. يا الله.. كيف يمكن لشعب هذه إرادته وهذا وعيه أن يُهزم؟ سجين يكتب فى ذاكرته ويحفظ فى ذاكرته ويستدعى ما كتبه حين يروق الحال!!! تذكرتُ رائعة شاعر السويس الكابتن غزالى حين قال "عضم اخواتنا نلّمه نسنه.. نعمل منه مدافع وندافع"، فعندما لا يبقى فى يد المقاوم أى شئ، يأتى الدور على الرؤوس والعظام واللحم الحى.• • •تذكرتُ أيضًا قصة المناضل الفلسطينى العظيم مروان البرغوثى الذى سرّب فصول رسالته للدكتوراه بينما هو حبيس سجن هداريم الإسرائيلى ومحكوم عليه بخمسة مؤبدات وأربعين عامًا. ولأن مناقشة رسالة البرغوثى كانت تحتاج خطوة استثنائية كخطوة منح الخندقچى جائزة البوكر وهو فى الأسر، لم يتردد مشرفه ومدير معهد البحوث والدراسات العربية فى عام ٢٠١٠- المفكر القومى الكبير الدكتور أحمد يوسف أحمد- فى تذليل كل الصعوبات الأكاديمية والإدارية. وبالفعل اجتمعَت لجنة لمناقشة رسالة مروان عن "دور المجلس التشريعى الفلسطينى فى العملية الديمقراطية"، وكانت هذه السابقة العروبية بمثابة رسالة تقدير لكل المناضلين خلف قضبان الاحتلال ممثلين فى شخص مروان البرغوثى. وحين يعاد فتح مكتبة معهد البحوث والدراسات العربية المغلقة من أكثر من عامين، سيتاح للباحثين أن يقرأوا ويتعلموا من هذه التجربة الفريدة من نوعها. أفتح قوسين آخرين لأقول إننى سجّلت قصة دكتوراه البرغوثى فى مقال بجريدة الشروق فى ١٨ مارس ٢٠١٠ تحت عنوان "إن أنت ناقشتَ مروان".• • •هذه الأرض الفلسطينية لابد عائدة لأهلها مهما طال الزمن ومهما جاوز الظالمون المدى. فمادام أبناء الأرض بمثل هذا الصمود وهذا اليقين وهذا الانتماء فالحق عائد لهم كما علمنا التاريخ. وهل أكثر دلالةً من أن مناضلًا كمثل مروان البرغوثى القابع فى زنزانته مسّنًا وضامرًا ومقيّدًا بقيود غلاظ مازال قادرًا على إرعاب سجّانيه؟
مقالات اليوم حسن المستكاوي «ديلى إكسبريس»: لا يوجد صلاح.. لا توجد مشكلة! محمد المنشاوي ترامب والمليارديرات! من أنتم؟ محمد بصل صراع الإرادات.. وإدارة الصفقات إبراهيم العريس ما قاله شكسبير قبل نصف ألفية.. إنما الدنيا مسرح كبير! محمد سالم استخدام النماذج اللغوية الكبيرة.. بين إتاحة التقنية وحماية النزاهة العلمية إريك شوفالييه الدبلوماسية النسوية: هيا نحشد جهودنا معًا من أجل حقوق المرأة والفتيات مواقع عربية «خوارزميات» تُنقذ الماء!
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك