x قد يعجبك أيضا

الهجرة الإحلالية

الإثنين 15 سبتمبر 2025 - 8:00 م

ظلت دول صناعية شتى تتوجس من استقبال المهاجرين، خوفًا على هويتها الوطنية، وحرصًا على مكتسباتها الاقتصادية وقيمها الاجتماعية. غير أن تفاقم المعضلة الديموغرافية لديها، بجريرة تراجع معدلات المواليد، وانكماش الوفيات، مع تنامى شيخوخة مجتمعاتها خلال السنوات القليلة المنقضية، قد أجبرها على دراسة خيار «الهجرة الإحلالية»، باعتباره آلية ناجزة لمعالجة هذا الخلل.

أثناء اجتماعهم الشهر الماضى، سلط رؤساء أضخم بنوك العالم المركزية الضوء على التداعيات الاقتصادية السلبية لشيخوخة المجتمعات، حيث حذروا من افتقار الاقتصادات الكبرى إلى العمالة الكفيلة بدفع عجلة النمو، والحفاظ على استقرار الأسعار خلال العقود المقبلة، ما لم تجتذب المزيد من المهاجرين. فقد انحسرت معدلات المواليد، بينما يعيش الناس لفترات أطول، بما يفضى إلى رفع معدل الإعالة جراء تقلص أعداد السكان فى سن العمل. ومن جانبه، أقر محافظ البنك المركزى اليابانى بانكماش الأيدى العاملة فى بلاده، جراء تسارع شيخوخة المجتمع. وبينما لا يمثلون سوى 3% من قوتها العاملة، أسهم العمال الأجانب فى إنجاز نصف الزيادة بمعدلات النمو الأخيرة.

وبينما ظلت اليابان، منذ الحرب العالمية الثانية، تغلق الباب أمام المهاجرين من ذوى الياقات الزرقاء، اضطرت الحكومة إلى مراجعة موقفها. فقبل خمس سنوات، بدأ عدد السكان يتراجع بوتيرة مخيفة، فيما تتوقع السلطات نقصانه بمقدار الثلث فى غضون خمسين عامًا. وللعام السابع والعشرين على التوالى، تتآكل قاعدة هرمها السكانى، بعدما أضحى عدد الأطفال فى سن 14 عامًا أو أقل فى أدنى معدلاته منذ عام 1908. فبنسبة 13.5% من إجمالى السكان، سجلت أدنى مستوى عالمى. فى المقابل، ارتفعت بشكل مطّرد نسبة من هم فى سن 65 عامًا فأكثر إلى إجمالى السكان، لتغدو 22%، وتمسى الأعلى عالميًا. وبحلول عام 2040، سيزيد عدد كبار السن على عدد الأطفال بمعدل 4 إلى 1. وبينما أكدت الحكومة احتياج البلاد إلى 6.74 مليون عامل أجنبى بحلول عام 2040، توقع تقرير حديث للمركز اليابانى للبحوث الاقتصادية أن تفقد البلاد 70% من قوتها العاملة، ويهوى نموها الاقتصادى إلى الصفر عام 2050. ونتيجة لذلك، اعتمدت الحكومة فى يونيو 2023 إصلاحات فى سياسات الهجرة، تتضمن قواعد انتقال وإقامة جديدة، أكثر انفتاحًا إزاء العمال الأجانب.

بعدما ساعدوا سوق العمل بمنطقة اليورو على تجاوز تداعيات جائحة كوفيد-19، تتوقع رئيسة البنك المركزى الأوروبى أن يقلص تدفق العمال الأجانب من التأثير السلبى للارتباكات الديموغرافية على النمو الاقتصادى. فبدونه، سيتراجع عدد السكان فى سن العمل بمقدار 3٫4 مليون عام 2040. وبينما تتبارى الدول الأوروبية فى التضييق على المهاجرين، أظهرت بيانات لمعهد الإحصاء التابع للاتحاد الأوروبى «يوروستات» فى يوليو 2025، أن الهجرة أضحت المحرك الوحيد للنمو السكانى فى القارة العجوز، التى باتت وفياتها تفوق مواليدها بحوالى 1٫3 مليون نسمة سنويًا. فلقد كشفت البيانات أن صافى الهجرة الإيجابى إلى أوروبا بلغ العام الماضى 2٫3 مليون، ما مكن من تعويض الانخفاض الطبيعى فى سكانها. وحقق عدد سكان الاتحاد الأوروبى رقمًا قياسيًا ببلوغه 450٫4 مليون نسمة مطلع يناير 2025، بزيادة قدرها مليون نسمة عن العام الماضى، بسبب صعود صافى الهجرة الإيجابى من 1٫3 مليون عام 2023، إلى 2٫3 مليون عام 2024. ما يعنى أن المستقبل السكانى للاتحاد الأوروبى سيرتهن بمعدلات الهجرة الصافية، الأمر الذى يظهر حاجة الأوروبيين الماسة إلى مزيد من الهجرة للحفاظ على مسار النمو خلال العقود المقبلة، وتعويض انخفاض معدلات المواليد وشيخوخة السكان، التى ستفاقم عجز العمالة وتشكل ضغطًا على الرعاية الاجتماعية.

حسب «يوروستات»، تعتبر الهجرة المحرك المركزى للنمو السكانى بأوروبا منذ بدأت معدلات مواليدها تتراجع عن معدلات وفياتها عام 2011. إذ تم تسجيل أعلى معدل نمو سكانى عام 2024 فى مالطا، بزيادة قدرها 19٫0 لكل ألف نسمة، بعدما سجلت أعلى معدل إيجابى لصافى الهجرة داخل الاتحاد الأوروبى، بواقع 18٫7 لكل ألف. بينما سجلت لاتفيا، وهى أقل الدول الأوروبية استقبالًا للمهاجرين، أكبر انخفاض فى عدد السكان، فيما تبعتها المجر التى تتبنى أشد قوانين الهجرة تقييدًا داخل الاتحاد الأوروبى. ووفقًا لتقرير نشره «معهد مونتين الفرنسى للبحوث الاستراتيجية» فى صحيفة «لاكروا» الفرنسية، بعنوان «الهجرة عامل رئيس فى مستقبل فرنسا الديموغرافى»، شكّل سبعة ملايين مهاجر نسبة 10٫3% من سكانها عام 2022. كما باتت الهجرة عنصرًا حيويًا للنمو السكانى، فى ظل تباطؤ معدل المواليد وارتفاع الوفيات. فبعد جيل طفرة المواليد، تستعد فرنسا لانكماش سكانها، بما لا يمكن تعويضه إلا من خلال زيادة تدفقات الهجرة. وفى عام 2022، شكلت الهجرة للمرة الأولى ما يقرب من ثلاثة أرباع النمو السكانى فى البلاد، بسبب استقبال أعداد أكبر من المهاجرين. وإذا استمرت الهجرة الصافية ضمن معدلاتها الحالية، ستحافظ فرنسا على مستوى معقول من النمو الديموغرافى، أما إذا تم تقييدها فلن تنجو من معضلة ديموغرافية.

وكشف تقرير لموقع «آر إف برلين» الألمانى، بعنوان «المهاجرون فى الاتحاد الأوروبى»، أن نسبة الأجانب المولودين بدوله شهدت نموًا مطردًا، من حوالى 41 مليونًا عام 2010، إلى أكثر من 63 مليونًا عام 2024، بنسبة 10% إلى 14.1% من إجمالى سكان الاتحاد. ومنذ 2010 إلى 2024، شهدت كل من ألمانيا، إسبانيا، فرنسا وإيطاليا زيادات مطردة فى أعداد المهاجرين.

فى مقاله بصحيفة «الجارديان» البريطانية، والمعنون «التغير المتوقع فى عدد سكان أوروبا بحلول عام 2100»، اعتبر الكاتب أليكس كلارك أن صعود اليمين المتطرف فى أوروبا إثر انتخابات عام 2024، وتبنيه نظرية «الاستبدال العظيم» للأجانب، قد يسرّع من وتيرة فقرها السكانى، مما سيخلف صدمات اقتصادية تشمل تباطؤ النمو، والارتفاع الحاد فى تكاليف المعاشات التقاعدية ورعاية المسنين. وحذر من أن إغلاق حدود أوروبا سينتج واقعًا ديموغرافيًا صارخًا، مع انخفاض عدد السكان الأصليين بشكل حاد خلال القرن المقبل؛ حيث تعانى إيطاليا، التى جعلت رئيسة وزرائها من مكافحة الهجرة أولوية خلال ولايتها الأولى، أدنى معدلات الخصوبة فى أوروبا، وسيتراجع عدد سكانها بأكثر من النصف بحلول نهاية القرن مع انحسار الهجرة. أما فى ألمانيا، التى حل حزب «البديل من أجل ألمانيا» المناهض للهجرة ثانيًا فى انتخاباتها الأخيرة، فقد يتقلص عدد السكان من 83 مليونًا إلى 53 مليونًا خلال الثمانين عامًا القادمة إذا أُغلقت حدودها تمامًا. وفى فرنسا، حيث فاز حزب «التجمع الوطنى» المناهض للهجرة بالجولة الأولى من الانتخابات التشريعية صيف العام الماضى، فإن سيناريو تقييد الهجرة يعنى انخفاض عدد السكان من 68 مليونًا إلى 59 مليونًا.

لن يفضى تقييد الهجرة إلى تقليص عدد سكان أوروبا فحسب، بل سيزيد من شيخوخة القارة العجوز. حيث ستقفز نسبة الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا فأكثر من 21% إلى 36% بحلول عام 2100 حال تطبيق برامج تضييق الهجرة. ذلك أن الشيخوخة الديموغرافية ستضع دول الاتحاد تحت ضغط اقتصادى متزايد، وستؤدى إلى تباطؤ النمو نتيجة تقلص القوى العاملة وارتفاع الأعباء الضريبية جراء ارتفاع الإنفاق على المعاشات التقاعدية، وزيادة الطلب على الخدمات الصحية ورعاية المسنين. وتتنامى نسبة الذين يحتاجون إلى الرعاية فى أوروبا بفعل تزايد نسبة كبار السن. كما أن انخفاض عدد الأطفال ومعدلات الخصوبة سيقلص أعداد العاملين بالتعليم ورعاية الأطفال، مما يستوجب نقل رعاة الأطفال إلى رعاية المسنين، لاسيما وأن العديد من أنظمة الرعاية الصحية الأوروبية تعتمد على أطباء وممرضات من المهاجرين.

لم يخفِ المستشار الألمانى فريدريش ميرتس قلقه من أن يسفر تزامن العجز الديموغرافى مع تقييد الهجرة بالقارة العجوز عن تقويض جهودها الرامية إلى تعظيم دورها العالمى وحماية مصالحها الاستراتيجية، لافتًا إلى تغيير بلاده قوانين الهجرة لديها بما يخولها استجلاب مزيد من خريجى الجامعات والعمال ذوى الياقات الزرقاء. إذ ارتفع عدد المهاجرين إليها من 11 مليونًا عام 2015، إلى 17٫4 مليون عام 2024، أى من 13٫4% إلى 20٫9% من إجمالى السكان، ما يبقيها وجهة أوروبية حيوية للمهاجرين.

بمقاربة مغايرة، لا يرى خبراء فى الهجرة حلًا سحريًا للمعضلة الديموغرافية الأوروبية. فعلاوة على المخاوف الاقتصادية، والهواجس الثقافية وإشكاليات الاندماج، يتعين أن تنصهر الهجرة داخل حزمة سياسات عامة أكثر تنوعًا. فبموازاة تسهيل استقبال المهاجرين، من الضرورى اعتماد تدابير من قبيل: رفع معدلات توظيف الأشخاص فى سن العمل، تأجيل سن التقاعد، إصلاح المعاشات التقاعدية، إصلاح العبء الضريبى، ودمج المهاجرين فى قوة العمل. هذا بينما تعانى العديد من الدول الأوروبية معدلات توظيف متدنية جدًا وسط المهاجرين، ناهيك عن الأعباء المصاحبة لشمول المهاجرين العاملين ضمن برامج الرعاية الاجتماعية.

فى ضوء ذلك، أطلقت المفوضية الأوروبية مطلع الشهر الجارى مقترح ميزانية لتمويل أولويات السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبى ما بين 2028 و2034. ومن أصل 200٫3 مليار يورو، تم تخصيص نحو 58٫4 مليار للقارة السمراء، تستهدف معالجة الأسباب الجذرية للهجرة غير النظامية، والنزوح القسرى، وعدم الاستقرار.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة