«اعمل حسابك، التقارير اليومية قصيرة العمر. أنا عاوزاك تعمل لنا فيلمًا تسجيليًا يرصد الحياة الفلسطينية ونقدر نعرضه بشكل مستمر». «انت كده أول السبحة اللى حتكرّ، امشى يا واد.. ربنا يوفقك». قالها لى متأثرًا، وطلب منى مغادرة المكتب!
• • •
العبارة الأولى قالتها لى الأستاذة سميحة دحروج، والعبارة الثانية قالها لى الأستاذ حسن حامد، وبين العبارتين ثمانى سنوات. العبارة الأولى كانت بداية صفحة جديدة فى تغطية الإعلام المصرى للقضية الفلسطينية عبر مراسل مصرى موفد من قناة النيل للأخبار تحت رئاسة الأستاذة سميحة، والعبارة الثانية صاغت لحظة عاطفية صعبة عند إعلان نيتى السفر إلى الولايات المتحدة بداية ٢٠٠٤ أمام الأستاذ حسن حامد.
• • •
الأستاذة سميحة منحت شابًا فى العشرينيات ثقة كاملة للسفر فى مهمة أولى من نوعها، وطلبت منه اتخاذ قراراته التحريرية بنفسه. أمر ــ لو تعلمون ــ استثنائى وعظيم فى أعراف مهنتنا وثقافتنا.
• • •
الأستاذ حسن علّمنى، ووجّهنى، وساندنى، واستثمر فى صبرٍ وجهدٍ ومخاطرة، كما فعل مع جيل كامل، ليكبر هذا الجيل، ويشارك خلف الكاميرا وأمامها فى صناعة المشهد الإعلامى التلفزيونى فى قمة نموه مصريًا وعربيًا. كان الوحيد الذى أيد سفرى للولايات المتحدة متجردًا من أنانية الرئيس أو المدير. أبٌ فتح النافذة للابن ليحلق بجناحيه، لأنها علامات النمو وضرورات التطور.
• • •
«حسن وسميحة»، تلازما فى الاسم كأنهما شخص واحد. هكذا يُشار إليهما بعد إضافة الأستاذية الرسمية، أو بدونها وسط المقربين من الأسرة والأصدقاء. نَفْسٌ واحدة تتكامل بكل ما فيها ثم تنقسم جسدين.
• • •
بنفس الثنائية، عرفتهما نصف عمرى الأول بشكل شخصى كامل، والنصف الثانى بصفتهما المهنية معلمين، وموجهين، ورؤساء مباشرين. عرفا كل عثرات وتحديات تاريخى الشخصى، ثم طرقت بابهما شابًا متمردًا، يبحث عن طريقه ووجهته. كنت قد تقدمت لاختبار الإذاعة البريطانية، وتجاوزت التصفيات الأولية حتى حانت لحظة الحقيقة، بأن أصبحت مطالبًا بتسجيل عينة صوتية وإرسالها للجنة الاختبارات.
• • •
بعد ثلاثة أيام من التدريب والتلقين، قال لى الأستاذ حسن إن الأمل فى قبولى معدوم. قال إنى أملك بعض الأدوات، وأفتقد بعض المهارات، فغرقت فى الترجمة والتدريب الصحفى والتلفزيونى بالإنجليزية التى أجيدها حتى يقضى الله أمره.
• • •
أعرف أن الصداقة بدأت قبل ميلادى. ستتمشى أمى الليلة إلى بيت حسن وسميحة، وأبى سيزورهما فى اليابان الشهر المقبل، أو يقابلهما فى واشنطن. هكذا تردد الاسمان على امتداد العمر، يجمعهما رابط الإخوة بالاختيار، سواء على مسافة خطوات من منزلنا، أو عبر قارات كاملة.
• • •
علاقة كانت دائمًا محل دهشتى واستغرابى، وأحيانًا تمردى ورفضى. إذا كانا بكل هذا القرب، لماذا يبدو لى أن حسن يدلل الآخرين ويقسو علىَّ؟ أمرنى بكتابة تقريرى التلفزيونى الأول خمس مرات قبل أن ينال قبوله! إذا كانت العلاقة بهذا العمق، لماذا تلومنى سميحة علنًا، وتوقفنى عن العمل لخطأ يمكن إصلاحه؟!
• • •
يمكن للابن أن يجادل الأب ويتجاوز بعض الخطوط معه فى معارك الاستقلال المبكرة، لكنه لا يملك نفس القدرة مع العم أو الخالة. هناك دائمًا مساحة من الحرج الاجتماعى تمنع ذلك. هكذا، كان شغلى الشاغل أن أحصل على رضا حسن، واعتراف سميحة. أن أثبت لهما أننى قادر على الطيران وتحديد اتجاهى. أن يكون نجاحى مزيجًا من حبى لهما، وتمردى عليهما.
• • •
سافرت وارتحلت وحققت قدرًا من نجاح، ونهاية المشوار بادية فى الأفق، وما زلت أضبط نفسى مبتسمًا بعد يوم عمل عند استقبال رسالة مهنئة منها، أو إشارة وتعليق منه.
• • •
ليست هذه قصتى معهما ولا حتى جزءًا منها، أنا مجرد سطر من سطور صارت كتابًا فى تاريخ الإعلام المصرى والعربى. كل سطر يشير إلى شاب أو شابة حقق قدرًا من نجاح داخل مصر أو خارجها بعد أن وفّر لهما حسن وسميحة رعاية وحماية لا تقوى الأعواد الخضراء دونها.
• • •
من ٢٠١١ حتى اليوم، لا يخلو نقاش من حديث عن الشباب. ماذا نفعل بهم؟ وماذا يفعلون بنا؟ درس الأستاذ حسن، والأستاذة سميحة، أنهما لم يفكرا أبدًا فى ما الذى سيفعلانه بنا، بل ما سيفعلانه معنا، وما يمكن أن نحققه معهما.
• • •
عموما، سواء كانا «حسن وسميحة»، أو الأستاذ حسن، والأستاذة سميحة، فإن أثرهما المشترك لم يقتصر أبدًا على لافتات رئاسة القناة، أو القطاع، أو حتى اتحاد الإذاعة والتلفزيون كله. أثرهما امتد بعمق وعرض حب الزوجين لبعضهما، ثم نثر هذا الحب رعايةً ودعمًا لعشرات الأبناء والبنات الذين منحهما الله لهما من صلب الرحلة والعمر.
• • •
أستاذ حسن، أستاذة سميحة، أتمنى أن يعى درسكما أى قادم مقبل على عمل عام. أستاذ حسن، أستاذة سميحة.. عرفانى بلا حدود.