قبل أيام روى لى صديق أنه التقى ببعض معارفه فى واحدة من أرقى قرى الساحل الشمالى، وبسخائه المعتاد اصطحبهم إلى مطعم أنيق يطل على البحر لتناول وجبة الغداء. لم تحمل المائدة سوى بضعة أصناف من المقبلات، وطبقين رئيسيين ومشروبات. لكن ما إن حانت لحظة الحساب، حتى قدمت النادلة ورقة صغيرة تحمل رقمًا صاعقًا: واحدًا وثلاثين ألف جنيه!! بدا عليه الذهول قبل أن يحاول التخفيف من وقع الصدمة بابتسامة محدثًا نفسه: «لقد دفعت فى هذه الجلسة ثمن ثلاث سيارات من أولى السيارات التى امتلكتها».
لم يكن الرقم مجرد قيمة فاتورة، بل تجسيدًا صارخًا للهوة بين زمنين ورجلين: شاب اشترى سيارته الأولى بعشرة آلاف جنيه، ورجل يسدد اليوم أضعاف ذلك فى وجبة واحدة. هكذا تبدو اقتصاديات الساحل الشرير مرآة لتشوهات أعمق من مجرد اختلاف الأسعار، فهى تكثيف للتفاوت الحاد بين بقعة جغرافية محدودة وبقية أنحاء الجمهورية. تفاوت لا يمكن تفسيره فقط بقوانين العرض والطلب، بل بشىء من الخلل فى بنية الاقتصاد وطرق توزيع الموارد.
فعلى امتداد الساحل الشمالى والمنتجعات الفارهة المحيطة به، تحلّق أسعار العقارات إلى مستويات خيالية لا صلة لها بالواقع المعيشى لغالبية المواطنين، ويجر وراءه ارتفاعًا مماثلًا فى أسعار السلع والخدمات. زجاجة مياه أو وجبة عادية هناك يمكن أن تُسعَّر بأضعاف مثيلاتها فى القاهرة أو الإسكندرية أو الصعيد، وكأن الساحل يشكل اقتصادًا موازيًا تدور فيه تدفقات مالية هائلة، لكنه يظل منفصلاً عن الاحتياجات الفعلية لبقية المجتمع.
هذه الظاهرة ليست مصرية خالصة، بل عرفتها اقتصادات عديدة، ففى إسبانيا مثلاً، تحولت بعض المدن الساحلية مثل «ماربيا» و«برشلونة» إلى بؤر للمضاربات العقارية، حتى تجاوزت الأسعار قدرة السكان المحليين على السكن فى مناطقهم الأصلية. وفى اليونان، قبل أزمتها المالية، تركزت الاستثمارات العقارية فى جزر محددة، مما خلق تفاوتًا حادًا بين هذه الجيوب السياحية والبرّ الرئيس. التجربة الصينية أيضًا ملهمة؛ حيث ارتفعت أسعار العقارات فى مدن الساحل الشرقى بشكل جنونى مقارنة بالداخل، حتى إن الاقتصادى الأمريكى «جوزيف ستيجليتز» أشار إلى أن هذه الفقاعة العقارية يمكن أن تكون مدخلاً لانفجار اقتصادى إن لم تُحكم الدولة السيطرة عليها بسياسات ضريبية وأدوات تمويلية مناسبة.
• • •
لكن مصر تواجه هذا التفاوت فى سياق مختلف، فالساحل ليس مجرد مركز سياحى موسمى، بل تحول إلى مرآة للفجوة الطبقية التى تتسع يومًا بعد يوم. حين تُدفع ملايين الجنيهات فى وحدات سكنية لا تُشغل إلا أسابيع معدودة فى العام، بينما يعانى ملايين آخرون من صعوبة الحصول على مسكن لائق، يصبح الاقتصاد مهددًا بما يسميه «توماس بيكيتى» «ديناميكيات التركّز الرأسمالى»؛ حيث تعيد الثروة إنتاج ذاتها فى دوائر مغلقة، بعيدًا عن آليات إعادة التوزيع. بيكيتى يرى أن غياب سياسات ضريبية تصاعدية عادلة يفتح الباب لمثل هذه الاختلالات، وهو ما ينطبق إلى حد بعيد على واقعنا الراهن.
إن ما يجرى فى الساحل الشرير لا يتوقف عند العقار وحده، بل يمتد إلى كل الخدمات والسلع المرتبطة به. نظرية «العدوى السعرية» التى تحدث عنها الاقتصادى الأمريكى «روبرت شيلر» تفسر كيف تنتقل التوقّعات المبالغ فيها من قطاع إلى آخر، ومن منتج إلى آخر. فإذا قبل المستهلك دفع عشرة أضعاف ثمن وجبة غذاء فى مطعم ساحلى، فسيجد البائع مبررًا لرفع سعر أى سلعة أخرى، بحجة أن السوق تقبّل ولم يعترض. بهذا تنشأ حلقة مفرغة، حيث تُخلق الأسعار من ذاتها، بعيدًا عن كلفة الإنتاج الحقيقية أو مستويات الدخول المتاحة.
كنت قد تناولت جانبًا من هذه الظاهرة فى مقالى المنشور بجريدة الشروق فى أغسطس ٢٠٢١، حين وصفت اقتصاد الساحل بأنه «سوق غرور» أكثر منه سوق عقار أو خدمات، حيث يتحوّل السعر المبالغ فيه إلى غاية فى ذاته، لا انعكاسًا للتكلفة أو الندرة. أشرت وقتها إلى أن زجاجة المياه أو وجبة الطعام قد تُباع بأضعاف ثمنها فى القاهرة أو الإسكندرية، لمجرد أن المستهلك يبحث عن مظاهر المكانة الاجتماعية. اليوم، وبعد مرور أعوام على ذلك المقال، تبدو الظاهرة أكثر رسوخًا واتساعًا، ما يفرض إعادة النظر فى أدوات التعامل معها، ويؤكد أن التحذيرات السابقة لم تجد آذانًا صاغية، وأن الفقاعة التى وصفتها حينها لم تنفجر لكنها تضخمت. (ملحوظة خلال الفترة بين 2021 و2025 ارتفع ثمن وحدة سكنية لأحد الأصدقاء من 14 مليون جم إلى 70 مليون جم، فقط لأنها فى الساحل الشرير).
• • •
تبدو المعضلة فى مصر أشد وطأة، إذ لم يعد الساحل مجرد ظاهرة اقتصادية، بل تحوّل إلى رمز ثقافى أيضًا. فصور المنتجعات وحفلاتها تنتشر على نطاق واسع لتغذى نزعة استهلاكية محمومة، وتجعل من مظاهر الإنفاق الباذخ معيارًا اجتماعيًا يُحتذى، لا مجرد تفضيل فردى. وهنا يطل التحذير الذى أطلقه «ثورستين فبلن»، واضع نظرية «الاستهلاك التظاهرى»؛ حيث رأى أن إسراف الطبقات العليا لا يستهدف الإشباع بقدر ما يبتغى إبراز المكانة، وهو ما يفرض على الطبقات الأدنى ضغوطًا لمجاراة هذا السلوك، ولو جاء ذلك على حساب حاجاتها الأساسية.
وقد اختلفت ردود الأفعال الحكومية تجاه تلك الظاهرة باختلاف الفلسفات الاقتصادية والاجتماعية. فبينما اتجهت بعض الحكومات إلى فرض ضرائب تصاعدية على الملكيات غير المستغلة، كما حدث فى إسبانيا، لجأت أخرى إلى سياسات تقييدية للحد من الاحتكار العقارى، مثلما طبّقت الصين قيودًا على تملك الأسر للوحدات السكنية. وفى تجارب أخرى، حاولت دول مثل البرازيل معالجة الاختلال عبر سياسات موازنة تنموية تهدف لربط المناطق الساحلية الفاخرة بمناطق الداخل.
ورغم تعدد الأدوات والمناهج، تبقى المعضلة الأساسية قائمة: كيف يمكن تحقيق توازن بين آليات السوق الحرة ومتطلبات العدالة الاجتماعية فى المناطق ذات الطبيعة الاقتصادية الخاصة؟ سؤال تختلف إجاباته باختلاف الثقافات والسياقات، لكنه يظل واحدًا من أكثر الأسئلة إلحاحًا فى حوكمة الاقتصادات المكانية غير المتوازنة.
أما فى مصر، فيدور النقاش فى حلقة مفرغة بين فريقين: فريق يرى فى الساحل الشمالى متنفسًا ضروريًا للنخبة، يُدِرّ العملة الصعبة ويجذب الاستثمارات، وفريق يحذّر من تحوّله إلى كانتون منعزل يستهلك موارد البلاد دون عائد حقيقى على التنمية. لكن الاقتصاد الحقيقى لا يعترف بهذه الثنائية المبسَّطة. فالمعضلة ليست فى اختيار بين التنمية والعدالة، بل فى كيفية تحقيق تنمية عادلة تدمج اقتصاد الساحل فى النسيج الاقتصادى الوطنى. بدون رؤية متكاملة تحوّل هذه الاستثمارات إلى محرّك للتنمية الإقليمية، وتضمن عدالة فى توزيع العوائد، سيظل الساحل اقتصادًا طفيليًا يزيد من حدة التفاوت ويُهدد التماسك الاجتماعى على المدى البعيد.
لا بد هنا من العودة إلى أقوال «ميلتون فريدمان» الذى أكد أن حرية السوق لا يمكن أن تزدهر دون قواعد واضحة للعبة، وأن انحراف الأسعار بعيدًا عن أسس العرض والطلب يعنى أن السوق لم تعد حرة بحق، بل مختطفة من قبل فئة محدودة. فى المقابل، يرى «كينز» أن مثل هذه الاختلالات تستدعى تدخلاً نشطًا من الدولة، سواء عبر الضرائب أو عبر الاستثمار المباشر فى مشروعات الإسكان والخدمات. المزج بين الرؤيتين قد يكون مدخلًا مناسبًا للحالة المصرية: ضبط القواعد وتقييد المضاربة، بالتوازى مع توجيه موارد إضافية لتوسيع قاعدة المستفيدين.
• • •
المطلوب إذًا ليس مصادرة حق أحد فى التملك أو الاستمتاع بالساحل، بل تصحيح الخلل البنيوى الذى يجعل من زجاجة ماء على الشاطئ سلعة شبه فاخرة. المطلوب أن يشعر المواطن فى أسيوط أو المنيا أو دمياط أن ما يُستثمر فى الساحل يمكن أن يعود عليه بخدمة عامة أفضل، أو فرصة عمل حقيقية، أو مدرسة حديثة، أو مستشفى مجهّز. فاقتصاد الساحل إذا ظل شريرًا، فلن يكون شرّه قاصرًا على من يعيش داخله، بل سيمتد أثره إلى كل ربوع الوطن. التجارب الدولية تعلّمنا أن ترك الفقاعة تتضخم ينتهى عادة بانفجار موجع، بينما التدخل المبكر بذكاء وحزم قد يحوّل الظاهرة من تهديد إلى فرصة.
وبهذا المعنى، يصبح الساحل مرآة لامتحان قدرة الاقتصاد المصرى على تحقيق التوازن بين رفاه النخبة واحتياجات الأغلبية. هو اختبار حقيقى لمدى فعالية السياسات العامة فى كبح جماح التفاوت، وتحويل الانفاق الاستهلاكى المسرف من مجرد رمز للترف إلى محرك للنمو الشامل. وهنا تكمن مسئولية الدولة لا فى الشعارات، بل فى الأرقام والسياسات والضرائب والاستثمارات الموجهة. فإذا نجحت مصر فى إعادة دمج الساحل فى منظومة التنمية الوطنية، فسيغدو الساحل خيرًا، لا شرًا، وإذا أخفقت فسيبقى شاهدًا على اقتصاد مزدوج يزداد انقسامًا يومًا بعد يوم.