يتزامن الأسبوع الثالث من الشهر الحالى مع بداية المناقشات العامة عالية المستوى للجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو أسبوع سيكون له دلالات على قراءة المنظومة العالمية المعاصرة وكذلك بالنسبة للتوجهات الدولية القادمة، وهى أمور بالغة الأهمية للمجتمع الدولى عامة وللشرق الأوسط بصفة خاصة، إزاء الأحداث الخطيرة التى تتعرض لها المنطقة.
أهمية هذا الأسبوع ليست فى حدث واحد أو سبب معين إنما لاعتبارات عدة، لأنه سيشهد جزءا من الدورة الحالية للجمعية العامة بعد مرور ٨٠ عاما على إنشاء المنظمة الدولية، والتى تشكل العمود الفقرى للنظام الدولى المعاصر منذ الحرب العالمية الثانية، وانتهز الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش هذه المناسبة لإصدار تقرير يتضمن أن إنفاق المجتمع الدولى على الحروب والمعارك تجاوز كثيرا ما يتم إنفاقه على جهود تحقيق السلام والاستقرار الدولى والإقليمى، وهو مؤشر جد خطير ومؤسف بعد مرور كل هذا الزمن مع أن من أولويات المنظمة منذ إنشائها تجنب ويلات ودمار الحروب والمنازعات واستتباب الأمن والاستقرار العالمى، ومن مؤشرات صعوبة الموقف أيضًا و(التردى) الدولى المتزايد أن الأمين العام كان بالغ التواضع فى اقتراحاته وتطلعاته للمنظمة رغم أهمية وجلال المناسبة، واختار عبارة «نحن معا أفضل» كعنوان أساسى لرسالته بهذه المناسبة، وحدد أهدافا إصلاحية تقنية لا ترتفع إلى مستوى الحدث والمناسبة، منها تخفيض نسبة العمالة بالمنظمة ٢٠٪ وتجنب الازدواجية التشريعية بين أجهزة ولجان الأمم المتحدة والرفع من كفاءة عمل المنظمة.
ضعف الطموحات المتعددة الأطراف، وزيادة الإنفاق العالمى الواسع على آليات الدمار وتبنى سياسات صدامية تجاه البعض يجب أن تكون أمرًا بالغ القلق والانزعاج فى حد ذاته، وإنما الأخطر من ذلك أننا نسرع بمعدلات متزايدة إلى مخالفة كل الأسس والقواعد الدولية المتبلورة خلال عملنا الجماعى والمتواصل منذ إنشاء الأمم المتحدة لحل المنازعات بالطرق السلمية ووضع ضوابط على التجاوزات الإنسانية حتى فى حالات التنازع، لصالح جبروت القوة والعنف المبرح.
فهل نحن على مشارف نقطة تحول وتفكك كاملة للتعددية الدولية والعمل العام حول القضايا الدولية والإقليمية؟ مع الاشتباكات والعنف المتكرر والتجاوزات القانونية، وعدم احترام سيادة الدول ومواد ميثاق المنظمة والقوانين الدولية المرتبطة بها، فى ظل فشل مجلس الأمن الدولى فى التعامل مع الخلافات السياسية، وانتشار المفاوضات السياسية عندما وجدت خارج إطار المنظمة ومؤسساتها، مما جعل أغلب إنجازات المنظمة أخيرا فى المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وهى إنجازات مقدرة وهامة، وإنما غير كافية للحفاظ على مصداقية المنظومة السياسية العالمية بين الرأى العام الدولى.
وكما جرت العادة سيكون الرئيس الأمريكى على رأس المتحدثين أمام الجمعية العامة مع بدء المناقشة العامة، وتوجهات ترامب ومعاونيه تجاه الأمم المتحدة تميل نحو السلبية بصفة عامة، ويتوقع تقدمه بالعديد من الطلبات والقيود على مؤسسات المنظمة وبرامجها، بما فى ذلك تخفيض أو وضع ضوابط وقيود على المشاركة الأمريكية فى ميزانية المنظمة، ويرتبط ذلك بمنظور عام يميل ضد المنظومة متعددة الأطراف وتوجهاته الشخصية الانعزالية أو الانفرادية.
وسبق أن أعلن عزمه الانسحاب من عدد من المنظمات المتخصصة، فضلا عن اتفاقات وبرامج حول ضبط المناخ، كما أنه قرر وضع قيود على مشاركة الوفود الأجنبية فى الاجتماعات السنوية، بما فى ذلك إلغاء تأشيرات الدخول للوفود الفلسطينية، مما يفرض على الرئيس محمود عباس المشاركة عبر الأقمار الصناعية، فضلا عن تقييد حركة بعض الوفود المشاركة الأخرى فى اجتماعات نيويورك مثل إيران رغم أن الولايات المتحدة كانت تعقد مفاوضات معها منذ أشهر قليلة حول برنامجها النووى.
ومن الأسباب الأخرى لأهمية احداث ونتائج الأسبوع الثالث من سبتمبر أنها تالية لمؤتمر إيجابى حول حل الدولتين بمبادرة سعودية فرنسية، ينتظر أن يكون له متابعة خلال دورة الجمعية العامة، فضلا عن أن عددًا من المتحدثين خلال هذا الأسبوع بما فيها القيادات الفرنسية والبريطانية، ماكرون وستارمر وآخرون، ملتزمون حتى الآن بالإعلان عن اعترافهم الرسمى بالدولة الفلسطينية خلال هذه الدورة للجمعية العامة، وسيكون من الأهمية بمكان متابعة هذه الإعلانات وغيرها وصياغتها بدقة وأية شروط مرتبطة بها، وهل تتجاوز طلبات وشروط تقليدية سابقة مثل إصلاح السلطة الفلسطينية وعقد الانتخابات، أم تمتد إلى إنهاء دور حماس كلية سياسيا وأمنيا والإفراج عن كل الرهائن.
كما من الأهمية أيضًا متابعة رد الفعل الأمريكى للقرارات والإعلانات المتوقعة من حلفائها الأوروبيين فى صالح القضية الفلسطينية، وهو موقف كان محل نقد شديد من عدد من المسئولين الأمريكيين على رأسهم وزير الخارجية روبيو والسفير الأمريكى لإسرائيل هاكربوى، الذين اعتبروا الاعتراف مبررا لسعى إسرائيل ضم الضفة الغربية لنهر الأردن، فضلا عن اعتبار الدعم لإسرائيل مسئولية أخلاقية وتوجه ربانى وواجب أخلاقى.
ونقترب من هذا الأسبوع الحساس فى أعقاب استمرار الجهود القطرية والمصرية للتوصل إلى وقف إطلاق النار بغزة على أساس أفكار من المبعوث الأمريكى ويتكوف بعد مفاوضات أمريكية مع حماس من خلال قنوات إسرائيلية، واستمرار القصف الإسرائيلى لقطاع غزة بشكل ممنهج، وأحداث القدس واستهداف إسرائيل لقيادات تفاوضية لحماس فى قطر، وهو ما وضع العملية كلها على المحك، فكيف تستمر المفاوضات والمفاوضين مستهدفين، وكيف تحافظ الدول الوسيطة على مصداقيتها الوطنية والإقليمية وأراضيها معرضة للمخاطر والتجاوزات، وكيف تدار أية عملية تفاوضية فى مثل هذه الظروف والتناقضات، والمطلوب هنا ضمانات أمريكية واضحة أن إسرائيل لن تكرر عملياتها الأخيرة.
وإذا كان الشرق الأوسط مثالا حادا لصعوبة الأوضاع الدولية واضطرابها فهناك كذلك أحداث أخرى والتداعيات الواجبة متابعة دقيقة، والتى سيكون لها تأثير على تحديد أهمية وانعكاسات الأسبوع الثالث من سبتمبر على الأوضاع الدولية، ومنها ما يرتبط بأحداث أوكرانيا، مع بطء الحراك السياسى وضعف المردود السياسى لقمة ترامب وبوتين فى ولاية ألاسكا الأمريكية، والتى لم تشهد وقف إطلاق للنار أو تخفيف للعمليات العسكرية، واستهدفت روسيا بعدها مقار رسمية حكومية فى أوكرانيا، وقد حدث ذلك بعدما شهدنا سطوعا آسيويا صينيا ومشاركة دولية واسعة فى احتفالاتٍ عسكرية فى إطار تجمع شنغهاى الأمنى استضافها الرئيس شى جين بينج أخيرًا، واشترك فيها قيادات أيدت أو رفضت مقاطعة روسيا بعد غزوها لأوكرانيا ومعارضة للتوجهات الدولية الغربية للهيمنة على الساحة الدولية، وتحمل فى طياتها مؤشرات قد تكون لها انعكاسات على اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى الأيام القادمة، وما يعقبها من زيارات متبادلة لقيادات الدول الكبرى فى الخريف والشتاء لتشكل بداية نمط وشكل جديد للنظام الدولى المعاصر بتوازنات مختلفة.
نقلا عن إندبندنت عربية