x قد يعجبك أيضا

التربية بين الأنسنة والرقمنة

الإثنين 15 سبتمبر 2025 - 8:00 م

لم يسبق فى تاريخ البشرية أن شهد التعليم تحولا متسارعا وشاملا كذاك الذى نعيشه اليوم فى عصر الرقمنة. ففى أقل من عقدين، تحولت الفصول الدراسية من فضاءات حضورية قائمة على التفاعل البشرى إلى بيئات رقمية افتراضية تتوسطها الشاشات وتديرها خوارزميات الذكاء الاصطناعى، ويسيجها جدول زمنى محكم يقاس بالدقائق والثوانى.

لقد أظهر تقرير صادر عن اليونسكو فى العام 2024 أن أكثر من سبعين فى المائة من الدول أدخلت منصات رقمية إلزامية فى التعليم العام، وأن نسبة استخدام التكنولوجيا فى التدريس ارتفعت بنسبة ثلاثمائة فى المائة منذ العام 2020. لكن هذا التسارع التقنى لم يواكب بقفزة مماثلة فى تطوير البعد الإنسانى للتربية.

فى هذا السياق، لم تعد الأنسنة مجرد مطلب أخلاقى أو تجميل أيديولوجى للخطاب التربوى، بل صارت ضرورة حضارية ملحة. فكلما تقدمت التكنولوجيا، وتعقدت الآلات، وازدادت سرعة المعالجة، تضاءل التفاعل البشرى، وتراجعت المهارات العاطفية، وانكمش الفضاء المتاح للتعاطف، والتأمل، والتفكير الأخلاقى. وقد أظهر تقرير لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية أن نحو 615 مليون طفل حول العالم، على الرغم من التحاقهم بالمدارس، لا يمتلكون المهارات الأساسية فى القراءة والكتابة، لكن الأعمق من ذلك هو أن نسبة كبيرة منهم تعانى من نقص حاد فى المهارات الاجتماعية والعاطفية مثل التعاطف، وضبط النفس، والقدرة على حل النزاعات. وهذه المهارات تعد اليوم من الركائز الأساسية للنجاح الشخصى والمجتمعى.

لكن الحاجة إلى الأنسنة لا تنبع من تحولات التعليم فقط، بل من طبيعة العالم الراهن نفسه، الذى يعيش تصدعات وجودية عميقة؛ يمزقها التوتر بين التقدم المادى والانحطاط الأخلاقى، بين الاتصال الرقمى والانفصال البشرى، بين الثروة المعرفية وفقر القيم. وفى عالم تهدد فيه الحروب استقرار المجتمعات، ويهدد فيه التغير المناخى كيان الكوكب، وتهدد فيه وسائل التواصل الاجتماعى الصحة النفسانية للشباب، تصير التربية الإنسانية خط دفاع أول ضد الانهيار الحضارى؛ فكيف نربى أجيالا قادرة على بناء السلام، بينما تدربهم مناهجهم على المنافسة المفرطة؟ وكيف نشكل مواطنين عالميين، بينما تنمى وسائل الإعلام لديهم الكراهية والتمييز؟

 

الهوية الرقمية بعد وجودى جديد

أظهرت دراسة حديثة نشرت فى مجلة طبية دولية أن أكثر من نصف المراهقين فى عينة شملت دولا عدة يعانون مما يعرف بـ Eco-Anxiety، أى القلق الوجودى الناتج عن تدهور البيئة، حيث يشعر هؤلاء الشباب بالعجز أمام كارثة مناخية لا يملكون أدوات التأثير فيها. وهذه الظاهرة لا تعد مجرد اضطراب نفسانى، بل هى استجابة أخلاقية لانعدام العدالة البيئية، وهنا تبرز الأنسنة كأداة تربوية لإعادة إعطاء الفرد شعورا بالقدرة على التأثير، من خلال تعليمه أن يكون مسئولا، لا ضحية.

كما أن الهوية الرقمية صارت تشكل بعدا وجوديا جديدا فى حياة الإنسان، إذ لا يعيش الفرد اليوم فى الفضاء المادى فقط، بل فى فضاء افتراضى دائم التوالد، حيث تصنفه الخوارزميات، وتشخصه البيانات، وتحوله إلى «ملف سلوكى». وفى هذا الفضاء، تختزل الإنسانية فى تفاعلات رقمية، وتستبدل العلاقات الحقيقية بالإعجابات والتعليقات. وقد وثق فى تقرير لمنظمة الصحة العالمية أن ما يقارب أربعين فى المائة من المراهقين يعانون من اضطرابات فى الهوية بسبب التعرض المفرط للصور المثالية على وسائل التواصل، ما يولد شعورا بالدونية وفقدان الثقة بالنفس. وهذه الظاهرة تظهر أن التربية لم تعد مهمة تربوية فحسب، بل عملية إنقاذ وجودي، تهدف إلى استعادة شعور الإنسان بذاته، وبقيمته، وباستقلاليته.

والأنسنة، فى هذا السياق، ليست مجرد محاولة للحفاظ على «اللمسة الإنسانية» فى التعليم، بل هى مشروع مقاومة تربوية ضد التفكيك الممنهج للإنسان. فهى تقاوم التجزئة بين العقل والقلب، بين المعرفة والأخلاق، بين الفرد والمجتمع. وهى تذكر بأن الإنسان ليس كائنا قابلا للبرمجة، بل إنه كائن مبدع، متأمل، متعاطف، قادر على الحب، والتسامح، والابتكار الأخلاقى.

ومن الناحية الفلسفية، تعيد الأنسنة طرح السؤال الكانطى الأصيل: «ما هو الإنسان؟»، لكن فى سياق تربوى معاصر يهدد فيه التقدم التقنى بإعادة تعريف الكائن البشرى ككائن وظيفى. فكما رفض كانط معاملة الإنسان كوسيلة، ورآه غاية فى ذاته، فإن التربية الإنسانية ترفض أن تعامل الطالب كمجرد رقم فى سجل، أو ككائن يجب تكييفه مع متطلبات سوق العمل، بل تعامله كفاعل أخلاقى، قادر على الاختيار، والمسئولية، والتغيير. وهذا الموقف يناقض الأنموذج النيوليبرالى السائد فى كثير من السياسات التعليمية، الذى يحول الطالب إلى «رأس مال بشرى» يجب استثماره لتحقيق النمو الاقتصادى. وقد سجلت دراسة مؤسسة بروكنغز أن سبعين فى المائة من سياسات التعليم فى الدول النامية تركز على «الملاءمة مع احتياجات السوق»، بينما لا تتجاوز نسبة السياسات التى تولى اهتماما صريحا بالتنمية الأخلاقية والروحية اثنى عشر فى المائة فقط.

وتظهر دراسات عدة أن النظام التعليمى غالبا ما يوظف كأداة للتأقلم مع الوضع القائم، لا لتحديه. وهنا تكمن أهمية الأنسنة: فهى لا تربى على التسليم، بل على التساؤل، ولا تربى على الطاعة، بل على التفكير النقدى. وقد أشارت أبحاث مركز دراسات التربية والنقد الاجتماعى فى باريس إلى أن المدارس التى تطبق مناهج قائمة على الحفظ والتلقين، وتقصى الحوار والمساءلة، تسهم ــــ ولو بشكل غير مباشر ـــــ فى ترسيخ سلطات القبول والانقياد، وهو ما يوصف بـ«التربية الآلية». أما من منظور ميشيل فوكو، فإن الأنسنة تشكل تمردا ضد «الرقابة التربوية» التى تنتج الأفراد وفق نماذج موحدة، وتهمش من يخرج عن الإطار. فالتربية الإنسانية، فى هذا السياق، تعيد الاحترام للتنوع وتراه مصدر ثراء. ولا يمكن الحديث عن الأنسنة فى العصر الرقمى من دون التوقف عند التحديات الهيكلية التى تهدد تحقيقها. فأول هذه التحديات هو الهيمنة التقنية، التى حولت الفصل الدراسى إلى فضاء رقمى، تغيب فيه النظرة، والابتسامة، ولهفة السؤال. وقد أظهرت دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع اليونيسيف أن متوسط الوقت الذى يقضيه المراهق فى تفاعل بشرى مباشر مع معلمه لا يتجاوز اثنتى عشرة دقيقة يوميا، بينما يقضى أكثر من ست ساعات وثلاث وعشرين دقيقة أمام الشاشات، وفق بيانات معهد بيو للأبحاث. وقد ارتبط هذا الانفصال بالارتفاع المقلق فى حالات القلق والاكتئاب بين الفئة العمرية 12-18 عاما، حيث سجلت منظمة الصحة العالمية ارتفاعا بنسبة 52 فى المائة فى اضطرابات الصحة النفسانية بين المراهقين خلال العقد الماضى.

ثانى التحديات هو الانفصال بين المدرسة والمجتمع. فالمناهج، فى كثير من الأحيان، تدرس مفاهيم عالمية مجردة، لكنها تفشل فى ربطها بالواقع المحلى، بالهوية، بالقيم السائدة. وقد أظهر تقرير للبنك الدولى أن نسبة الطلاب العرب الذين يرون أن المناهج لا تعكس ثقافتهم أو قيمهم تصل إلى 68 فى المائة، ما يولد شعورا بالاغتراب. ثالث التحديات هو الضغط الأكاديمى المفرط، الذى حول الطالب إلى «منتج» يجب أن يحقق أقصى عائد من المعرفة فى أقصر وقت. ولتجاوز هذه التحديات، لا بد من بناء أنموذج تربوى إنسانى متكامل، يقوم على إعادة تعريف نجاح الطالب، بحيث لا يقاس بالدرجات فقط، بل بالاستعداد للعطاء، والقدرة على التعاطف، ومستوى المشاركة المجتمعية. وقد أظهرت دراسة لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية أن الطلاب الذين يتلقون تعليما مركزا على المهارات الاجتماعية والعاطفية يسجلون تحسنا بنسبة 13 فى المائة فى الأداء الأكاديمى، وتقل لديهم السلوكيات السلبية بنسبة 27 فى المائة.

 

الأنسنة فى العصر الرقمى

ولا يمكن تجاهل ضرورة دمج القيم الإنسانية فى جميع المواد، لا كمقرر منفصل، بل كإطار مفاهيمى يستخدم فى تدريس التاريخ، والعلوم، والرياضيات. كما أن التعليم القائم على المشروعات الخدمية هو وسيلة فعالة لربط المدرسة بالواقع، حيث يشارك الطلاب فى حل مشكلات مجتمعية حقيقية، ما يشعرهم بالانتماء والقدرة على التأثير. وقد أظهر تقييم لبرنامج «التعلم من أجل السلام» المشترك بين اليونيسيف ومفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين أن 83 فى المائة من الطلاب المشاركين فى مشروعات تطوعية تحسن لديهم الشعور بالمسئولية، وانخفضت حالات التنمر المدرسى بنسبة 44 فى المائة.

إن الأنسنة فى التربية ليست ترفا فكريا، بل استراتيجية حضارية للبقاء؛ ففى عالم يهدد فيه الذكاء الاصطناعى بتجاوز الإنسان، تصبح القيم الإنسانية هى الميزة التنافسية الوحيدة للبشر. فالإنسان لا يتفوق على الآلة بسرعته فى الحساب، بل بقدرته على الشعور، والحب، والتسامح، والابتكار الأخلاقي. ومن هنا، فإن بناء الإنسان المتكامل - الذى يجمع بين العلم والروح، وبين العقل والقلب - ليس رفاهية تربوية، بل ضرورة وجودية. فالتربية التى لا تؤنسن، تنتج كائنات فاقدة للهوية، مفككة القيم. أما التربية الإنسانية، فهى تعيد للإنسان كرامته، وتعيد للمجتمع تماسكه، وتعيد للحضارة إنسانيتها. فى النهاية، لا يمكن أن نبنى مدنا، ثم نهمل بناء الإنسان الذى يسكنها. فالحضارة الحقيقية لا تقاس بارتفاع الأبراج، بل بعمق القلوب، ونقاء النوايا، واتساع الأفق. والتربية، فى هذا المعنى الأسمى، ليست نقلا للمعرفة، بل إشعال روح.

 

خالد صلاح حنفي

مؤسسة الفكر العربي

النص الأصلي 

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة