جيل «زد».. وكراسى الإعلام التقليدية

الأربعاء 10 ديسمبر 2025 - 6:50 م

حينما تنزاح الكراسى الإعلامية التقليدية المُتمثلة بوكالات الأنباء الكبرى والمؤسسات الإعلامية العريقة التى طالما تحكمت بالخبر.. هذه الكراسى التى بقيت ثابتة خلف ميكروفونات مُسيطرة على المشهد الإعلامى، بدأت اليوم تنزاح عن عرشها وإن لم تنكسر بعد، لكنها فقدت الكثير من تأثيرها أمام تيار جديد من الإعلام الرقمى، وجيل جديد تعجز الخوارزميات المُدربة عن لجم انجرافه نحو الغد الباحث عما وراء الخبر قبل الخبر نفسه، هو جيل اليوم.. جيل زد.
يسمونهم مواطنين عالميين يمتلكون وعيًا بالقضايا العالمية ويمتازون بثقافة البحث عن العدالة الاجتماعية ويشككون فى المؤسسات التقليدية. جيل «زد».. هو الجيل الذى ولد تقريبًا (1995-2012) جيل ولد والشاشة فى يده. ليسوا نسخة مُكررة من الأجيال السابقة، بل كائنات اجتماعية تشكّلت فى زمن غيّر قواعد اللعبة كلها.
هذا الجيل لم «يتعلم» التكنولوجيا.. نشأ فيها، الإنترنت بالنسبة لهم ليس اختراعًا مُدهشًا، بل أرض الميلاد. الهواتف الذكية ليست أداة، بل امتداد للذاكرة والهوية. لذلك نجد طرق تفكيرهم، معرفتهم، وصياغتهم لعلاقاتهم مختلفة تمامًا. هم أكثر وعيًا بالهوية الفردية. يريدون أن يكونوا «هم» من دون أقنعة. يميلون فى الغالب إلى التشكيك فى الخطابات الجاهزة وفى الأخبار الآتية عبر مؤسسات الإعلام العالمية التقليدية، فيبحثون وراء كل خبر عن مصادره، وهى اليوم متاحة عبر المنصات الفضائية.
لم تعد تغشهم المصادر التقليدية، على العكس هم الجيل الذى يرفض أن يصدق قبل أن يتأكد من مصداقية ما يصلهم، يناقش يحلل ويُعارض ما لا يوافق قناعاته. هم جيل عالمى دون مبالغة، ليس لأنهم يسافرون أكثر، بل لأنهم يعيشون فى شبكة تمتد عبر الحدود. أصدقاء من مختلف القارات، قضايا لا تعرف خريطة، وثقافة يومية مصدرها العالم كله. وعيهم بالقضايا الكبرى ليس رفاهية فكرية. المعلومات أمامهم فى كل لحظة: حروب، اغتيالات، أزمات، الأخبار مُتدفقة بلا توقف.. هم جيل يسأل: ما الذى حدث؟ ولماذا؟ ولا يكتفى بإجابة واحدة.
مع تطور غريزة البحث عن الحقيقة وسط هذا الكم الهائل من الأخبار المتناقضة، سقطت ثقتهم فى وكالات الإعلام العالمية. إذا سمعوا شيئًا يذهبون فورًا للتحقق، والوسائل متاحة: بحث سريع، مشاهدة مقاطع تحليلية، مقارنة مصادر مختلفة. الأمر يشبه امتلاك جهاز كشف كذب ذهنى نشط ودائمًا. بدأت معهم كراسى المؤسسات الإعلامية العريقة تنزاح عن عرشها المُتَصلِب ما جعلها تنشط فى المنافسة على المنصات، فاتحة لهذا الجيل باب المشاركة بالتحليل والمناقشة.
هم جيل جديد مختلف عن جيل الألفية الذى سبقه. حيث يَعتبر الباحثون أن ما يسمى جيل الألفية هم مواليد تقريبًا (1981-1996). وهم جيل عاش المراحل الانتقالية الكبرى فى العالم من التناظرى إلى الرقمى.. من التليفزيون والصحف الورقية إلى الإنترنت والصحف الإلكترونية والهواتف الذكية.. من العولمة كفكرة إلى العولمة كأسلوب حياة. باختصار هم جيل تعلموا العيش فى عالمين مختلفين ثم جمعوهما فى هويتهم. رافقوا ولادة التكنولوجيا والثورة الرقمية.. عرفوا البريد الورقى والإيميل.. الهاتف الأرضى والجوال ثم الذكى.
هم وسطاء بين القديم والجديد.. لم يكن لهم ذلك التأثير على كراسى الإعلام التقليدية، إذ بقيت بالنسبة لهم المصدر الموثوق للأخبار، لكن اليوم كل الأجيال بما فيها ما يسمى جيل (إكس) الذى سبق جيل الألفية بدأ الكل يسأل قبل أن يصدق أى خبر، ويبحث وراء الكراسى التى لم تعد ثابتة مُتحكمة بعقول الناس. لم يعد الإعلام العالمى التقليدى حارسًا وحيدًا على بوابة الحقيقة. ولم تعد مؤسساته المرجع الأعلى للمعرفة.. الجيل الجديد جيل «زد» غيّر المشهد، دخل مسلحًا بأدوات رقمية وعقلية نقدية وسؤال حاد: من قال إن الكرسى الإعلامى لا يمكن أن يتزحزح؟
جيل زد رقمى الهوية، الخبر بالنسبة لهم ليس بثًا من جهة واحدة بل سيلًا مستمرًا تتشارك فى صناعته آلاف الأصوات.. لذلك عندما يتقدم الإعلام العالمى التقليدى بخطوات متأنية، يكون جيل «زد» قد جرّ معه ما سبقه من أجيال ليقطع نصف الطريق نحو الخبر.. بحثًا وتحليلًا ومقارنة.
هذا التحول يجب أن يدفع المؤسسات الإعلامية إلى إعادة التفكير فى نماذجها القديمة، الجمهور لا ينتظر نشرة الأخبار يجد الخبر قبل أن يُنشر.. لم يعد كرسى المذيع الراوى الوحيد أمام كثرة الكراسى، المِصداقية وحدها التى تثبت أن مِقعده يستحق البقاء.

ندى أحمد جابر

جريدة الخليج الإماراتية

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة