تؤكد الأرقام والإحصائيات بما لا يدع مجالًا للشك التزايد، بل والتضاعف، فى الصراعات المسلحة فى العالم منذ نهاية الحرب الباردة فى مطلع عقد التسعينيات من القرن العشرين، وذلك خلافًا لكل التوقعات والأحلام والآمال التى تعلقت بقلوب وعقول البشر وصاحبت انتهاء الحرب الباردة منذ ثلاثة عقود ونصف العقد، كما تنوعت تلك الصراعات بين ما هو دولى، وما هو إقليمى، وما هو شبه إقليمى، وما هو محلى أو داخلى فى نفس الدولة. وربما كان أحد الأسباب الإضافية لمعرفة عدد الصراعات الموجودة فى العالم بشكل أفضل كثيرًا عما كان الحال من قبل هو ثورة المعلومات والاتصالات التى شهدت طفرة كبرى ونقلة نوعية غير مسبوقة على مدى العقود القليلة الماضية، فقد نتج عن تلك الثورة سهولة الوصول للمعلومة والحصول عليها، ليس فقط من جهة الدول والمنظمات الدولية والإقليمية، بل حتى من قبل الجماعات البشرية الصغيرة والأفراد، أيًا كان موقعهم الجغرافى.وقد أصبح اللجوء إلى خيار الحرب فى العلاقات الدولية فى الفترة الأخيرة، فى ضوء تلك الإحصائيات، هو فى الكثير من الحالات الخيار الأول لبعض الدول والجماعات المسلحة فى عالم اليوم، وذلك بدلًا من أن يكون اللجوء لاستخدام القوة هو الخيار الأخير، وذلك بحسب ما أشار إليه ميثاق الأمم المتحدة، والذى قصر "الحق" فى استخدام القوة على دفاع الدولة عن نفسها فى حالة تعرضها للعدوان، سواء كان الدفاع فن النفس فرديًا أو جماعيًا، وذلك طبقًا للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.وبالطبع فإنه من الخصائص التى تميز الحروب فى الفترة الأخيرة هو تعاظم الدور والمكون الخاص بالذكاء الاصطناعى فى تلك الحروب، وقد ظهر ذلك جليًا من خلال أشهر الحروب فى عام 2025، سواء الحربين المستمرين منذ أعوام سبقت، أى الحرب الإسرائيلية فى قطاع غزة منذ أكتوبر 2023 أو الحرب بين روسيا وأوكرانيا منذ فبراير 2022، من جهة، أو الحرب الإسرائيلية على إيران فى يونيو 2025 من جهة أخرى. فقد تحولت الحروب تدريجيًا من حروب واضحة فيما بين الجيوش والطائرات والسفن الحربية إلى حروب تمتزج فيها الجيوش والطائرات والسفن بمعطيات التكنولوجيا الأكثر تقدمًا، وصولًا إلى حروب يغلب فيها دور معطيات التكنولوجيا المتقدمة بل ومنتجات الذكاء الاصطناعى، مثل المسيرات وأنواع شديدة التقدم والتعقيد من الصواريخ وغيرها، على دور الجيوش والطائرات والسفن.ومن الخصائص الأخرى لحروب زمن ما بعد انتهاء الحرب الباردة أيضًا استمرار الكثير من هذه الحروب لفترات زمنية طويلة، وبالمقابل فإن القليل من هذه الحروب هى التى وصلت إلى نهايتها من خلال تسويات تفاوضية، وهى حقائق على الأرض تعكس أوجه خلل هيكلية تتواجد فى النظام الدولى، وفى المقدمة منها الضعف والوهن الشديدين اللذين يتسم بهما النظام الدولى فيما يتعلق من جهة بالدبلوماسية الوقائية التى تهدف إلى الحيلولة دون تحول أى نزاع أو صراع إلى حالة حرب، ومن جهة أخرى العجز من جانب المجتمع الدولى عن إيقاف هذه الحروب وعن التوصل إلى حلول وتسويات سلمية عادلة وقابلة للإدامة للنزاعات والصراعات التى أدت إلى اندلاع الحروب فى المقام الأول.كذلك فمن الجدير بالملاحظة أن أسباب اندلاع الحروب قد اختلفت، أو لنقل توسعت، بعض الشىء عما سبق، ففى السابق كانت هناك أسباب لاندلاع الحروب فيما بين الدول يمكن إيجازها وقصرها على ما يلي: الخلافات الحدودية، الرغبة والطمع فى السيطرة على أراض تابعة لدولة أخرى، الرغبة والطمع فى السيطرة على موارد طبيعية فى دولة أخرى أو ممرات ملاحة دولية هامة تمر بتلك الدول، أو الرغبة فى إعادة تجميع شعب أو أمة أو جماعة عرقية أو قومية أو لغوية أو دينية أو قبلية تفرقت على عدة دول ويوجد ادعاء تاريخى، سواء كان مثبتًا تاريخيًا أو افتراضيًا، أنها كانت موحدة فى بلد واحد فى زمن ما فى الماضى القريب أو البعيد. إلا أن أسبابًا طرأت على حروب ما بعد انتهاء الحرب الباردة تضمنت على سبيل المثال السعى لتدمير قدرات دولة أخرى، سواء بصفة عامة أو فى مجال بعينه، كما تم إحياء أسباب تصور البعض خطأ أنها انتهت مع انتهاء ظاهرة الاستعمار القديم فى أعقاب الحرب العالمية الثانية ومن ذلك السعى إلى احتلال دولة أخرى بالكامل وفرض نظام سياسى معين عليها.والخاصية الأخرى التى يتعين الإشارة إليها هنا تتعلق بأن حجم التدمير المادى المتعمد والقتل والإيذاء الممنهج للبشر فى الحروب خلال العقود الثلاثة والنصف الأخيرة غير مسبوق فى تاريخ البشرية المعروف، وتتزايد خطورة ودلالة هذه الملاحظة إذا أخذنا فى الاعتبار أن منتجات التقدم العلمى والتكنولوجى المتسارع ومعطيات الذكاء الاصطناعى وفرت إمكانات تدميرية تفوق مئات، إن لم يكن آلاف، المرات ما كان متاحًا فى السابق، كما أن هذه المنتجات والمعطيات بطبيعتها لا تملك القدرة البشرية على التمييز، سواء فيما بين المنشآت أو فيما بين البشر، لتحدد مثلًا كيف تستهدف فقط الأهداف العسكرية وتتحاشى تلك المدنية أو ذات الطابع الخدمى مثل المدارس والمستشفيات، وهو الأمر الذى أفضى إلى نتائج كارثية تمثلت فى قتل واسع النطاق للمدنيين، بما فى ذلك الشيوخ والأطفال، وتدمير كامل لمنشآت مدنية تعج بالمدنيين، ويعنى تدميرها حرمان سكان مناطق واسعة مما تقدمه من خدمات صحية أو تعليمية أو غير ذلك لشهور أو حتى سنوات طويلة مقبلة.يضاف إلى ما تقدم أن ما يمكن أن نصفه بالتداعيات الإنسانية السلبية للحروب فد تضاعفت مقارنة بما مضى بشكل ملفت، وهو ما تؤكده، على سبيل المثال، دراسات وإحصائيات للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين واللجنة الدولية للصليب الأحمر وغيرهما من منظمات حكومية أو غير حكومية دولية لها مصداقيتها العالمية. ويندرج ضمن تلك التداعيات الإنسانية السلبية الارتفاع الحاد فى أعداد اللاجئين والنازحين الذين بات يتم خروجهم من بلدانهم أو أقاليمهم الأصلية بفعل الحروب، وهو ما وصل على سبيل المثال إلى حوالى 12 مليون شخص فى السودان منذ اندلاع أشكال متعاقبة من الاقتتال الأهلى فى أعقاب الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير فى 11 أبريل من عام 2019، وكذلك الارتفاع غير المسبوق فى أعداد المفقودين خلال العمليات العسكرية وكنتيجة لها، حيث وصلت هذه الأعداد مثلًا فى أوكرانيا إلى 150 ألفًا، طبقًا لتقديرات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وذلك منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية فى فبراير من عام 2022.وننتقل إلى ملاحظة أخرى ربما لا تقل أهمية فيما يتعلق بالطبيعة المتغيرة للحروب، حيث نجد أن عددًا كبيرًا من الحروب فى العالم عقب اعتداءات 11 سبتمبر 2001 فى الولايات المتحدة الأمريكية كان مرتبطًا بموضوع الإرهاب، سواء كان هذا الارتباط فعليًا وتوجد أدلة دامغة عليه أو اتخذ «الإرهاب» كذريعة ومبرر لشن الحرب فى سياق العمل على إضفاء شرعية قانونية أو سياسية دولية على تلك الحرب وعلى التدخل فى شئون دولة أخرى واحتلال أراضيها.وفى الختام، يتعين على المجتمع الدولى أن يتنبه إلى حقيقة أن الكثير من الحروب، سواء فيما بين الدول أو الحروب الأهلية، وإن بدا على السطح أنها انتهت، لأنه لم تكن هناك نهاية شهدت تسوية سلمية تفاوضية فيما بين مختلف الأطراف التى كانت متقاتلة فى السابق تحظى برضاء وقبول تلك الأطراف فإنه لا يمكن فى حقيقة الأمر اعتبارها وكأنه تمت معالجة أسبابها وأنها من ذكريات الماضى وتقع فى طى النسيان، بل إنها قد تكون مهددة بالانفجار من جديد فى أى لحظة وبدون سابق إنذار وربما بشكل أكثر عنفًا وتدميرًا مما كانت عليه فى مراحلها السابقة.
مقالات اليوم حسن المستكاوي من كرواتيا إلى الأردن مسافة زمن قصيرة ومسافة مستوى بعيدة! أشرف البربرى النازيون عائدون خالد عزب الإنسان والمعرفة.. كيف يرى الإنسان ذاته وقدراته ؟ معتمر أمين التنافس على البحر الأحمر! علي محمد فخرو حملات تجميل الصورة القبيحة صحافة عربية جيل «زد».. وكراسى الإعلام التقليدية من الصحافة الإسرائيلية لماذا لا يزال التطبيع مع لبنان حلمًا بعيدًا؟ قضايا اقتصادية الهند وتخصيص القطاع النووى لتوليد الكهرباء
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك