التنافس على البحر الأحمر!
الأربعاء 10 ديسمبر 2025 - 6:50 م
تزداد أهمية البحر الأحمر يومًا بعد يوم بوصفه مسرحًا لصراع دولى وإقليمى معقّد، يتقاطع فيه مستقبل النظام الإقليمى والعالمى مع أمن مصر القومى مباشرة. فالممر البحرى الممتد من قناة السويس حتى مضيق باب المندب، تحوّل إلى ميدان تنافس للنظام الدولى «ما بعد الليبرالى» إذا جاز التعبير، حيث تتراجع مركزية الغرب، وتتصاعد أدوار قوى صاعدة دولية وإقليمية تسعى لفرض ترتيبات جديدة بعيدًا عن الأطر التقليدية للشرعية الدولية. بمعنى أن استخدام القوة وفرض الأمر الواقع هو اللغة المستخدمة فى فرض هذه الترتيبات. فى قلب هذا المشهد، تقف مصر أمام شبكة متداخلة من التهديدات المرتبطة بالمياه، والبحر الأحمر، والسودان والقرن الإفريقى، وتحالفات إقليمية تعيد رسم خرائط النفوذ على حساب مصالحها الحيوية.
فى هذا السياق المضطرب، تبدو التحركات الإثيوبية تحديًا خطيرًا ومباشرًا للأمن القومى المصرى. إثيوبيا لا تكتفى بالتصلّب فى ملف سد النهضة وفرض سياسة الأمر الواقع على مجرى النيل، بل تصر على التحرك بدعم من بعض دول الإقليم (للأسف) داخل العمق السودانى بصورة خطيرة، وتنخرط بصورة غير مباشرة فى الصراع السودانى وفى تغذية اصطفافات جديدة على الأرض. بالتوازى، تبنى أديس أبابا تنسيقًا وثيقًا مع إسرائيل فى ملفات الأمن والاستخبارات والمياه، فى صورة محور صاعد يريد تغير التوازنات فى البحر الأحمر والقرن الإفريقى. وتستعمل إثيوبيا لهجة تصاعدية فى خطابها تجاه مصر، وتتهمها بتغليب «عقلية الاستعمار». وكل هذا تراه القاهرة على أنه محاولة ممنهجة لجرّ مصر إلى مواجهة إقليمية مركّبة، تتغذّى على تصريحات عدائية ومتغطرسة تصدر من الجانب الإثيوبى بين الحين والآخر، وتمس الشأن الداخلى المصرى وتستهدف صورة مصر فى إفريقيا.
• • •
الخطر هنا يتجاوز كونه نزاعًا مائيًا على حصص النيل، ليصبح تهديدًا استراتيجيًا شاملًا. إثيوبيا، كدولة حبيسة تبحث عن منفذ بحرى، توظّف شراكاتها المتنامية مع بعض القوى فى المنطقة، ومع تل أبيب، لفتح منفذ على البحر الأحمر والقرن الإفريقى، وذلك بالتعدى أو زعزعة استقرار كل من السودان، والصومال، وإريتريا. يجرى ذلك فى لحظة توازن حرجة فى السودان، وانهيار شبه كامل لمؤسسات الدولة فى الصومال، وتنافس خليجى ـــــ تركى ــــــ إيرانى ـــــ إسرائيلى على الموانئ والقواعد العسكرية. بالنسبة لمصر، هذا يعنى أن حدودها الجنوبية ونطاقها الحيوى فى تلك الجبهة تتحول تدريجيًا إلى ميدان ترتيبات أمنية واقتصادية تُفرض من الخارج، دون مراعاة لمعادلة الأمن القومى المصرى بمختلف أبعاده، لاسيما فى مجال المياه أو لمكانة قناة السويس كعصب رئيسى للتجارة العالمية.
إلى جانب ذلك، يزداد تعقيد المشهد بفعل «تعدد الاصطفاف» أو «تعدد الرعاة» بالمنطقة. فالفصائل السودانية لم تعد تعتمد على وسيط واحد، بل تذهب فى كل اتجاه: الإمارات، السعودية، تركيا، إسرائيل، روسيا، وأطراف أخرى، بما يحوّل الحرب الأهلية إلى حرب بالوكالة تُدار من عواصم متعددة. المشهد نفسه يتكرر فى الصومال، حيث تتفاوض سلطات أرض الصومال المحلية مباشرة مع أثيوبيا برعاية قوى إقليمية على اتفاقات أمنية واقتصادية تتجاوز مؤسسات الدولة المركزية، وتفتح الباب لوجود أمنى واقتصادى أجنبى على الساحل الغربى للبحر الأحمر. هذه الشبكة من الصفقات الثنائية والتى من ضمنها أو أخطرها التفاهمات من نوعية «تحت الطاولة» تخلق بيئة إقليمية غير مستقرة، يتراجع فيها دور الدبلوماسية ويتصاعد فيها أدوارا بديلة، وتضيق فيها هوامش الحركة أمام القاهرة التى تدعو الجميع لإعادة النظر فى أمن واستقرار المنطقة قبل أن تتحول لطوفان من الفوضى.
• • •
يتعقّد المشهد أكثر مع انتقال التنافس الإقليمى من ساحل البحر الأحمر الغربى إلى الشرقى، حيث تتقاطع الحسابات السعودية –الإماراتية بصورة مباشرة فى الجنوب اليمنى، ولا سيما فى محافظتى حضرموت والمهرة اللتين تمثلان نطاق نفوذ تقليدى للمملكة. فى هذا السياق، تتداول تحليلات سياسية حول حساسية الرياض تجاه أى تمدد خارجى فى تلك المناطق، نظرًا لطبيعتها الحدودية وترابطها القبلى والاجتماعى مع المملكة، فضلًا عن موقعها الحيوى كامتداد جغرافى يطل على بحر العرب ويؤثر على أمن مدخل البحر الأحمر. ورغم عدم توافر مصادر موثوقة تؤكد وجود قرارات عملياتية بهذا الشأن، فإن الاعتبارات الاستراتيجية المحيطة بالمنطقة تعكس درجة عالية من الانقسام أو على الأقل غياب الرؤية الموحدة لفكرة أمن الإقليم، بما يزيد من ضبابية خريطة التحالفات ومجالات النفوذ على أبواب البحر الأحمر.
• • •
إذن تتعدد الأسباب وراء تهديد الاستقرار فى البحر الأحمر، بين تضارب المصالح البينية، وتعارض المشروعات التى تتزعمها شبكات من المصالح، واختلاف الرؤية بين الأطراف. والأمر المرجح استمرار هذه التفاعلات لفترة طويلة، وهذا يقودنا إلى استقراء بعض السيناريوهات المستقبلية المتوقعة والتى تدور حول التصعيد، والاحتواء والتهدئة. ويعتبر أخطرها التهدئة لأنها بطبيعة الحال مؤقتة، وقد تسفر عن تبعات غير متوقعة، خصوصا أن عناصر الانفجار لم ولن تتغير، فإثيوبيا ستبقى دولة حبيسة، ولن يتغير ذلك بدون مواجهة مع إريتريا، أو جيبوتى أو الصومال. أما فى حالة السودان، فستبقى شئونه رهينة الحرب الأهلية. وأما التنافس الخليجى، فهو الأخطر بطبيعة الحال، نظرا لامتلاك الأطراف لإمكانيات وموارد هائلة تستطيع أن تطيل من أمد التنافس الذى يصل إلى مستوى الغلبة. ولذلك أى تهدئة لن تغير من الواقع شيئًا، بل هى تأجيل لما ستسفر عنها الأيام. أما الاحتواء فهو أفضل حل، ولكنه يتوقف على السيناريو الذى تدفع به الولايات المتحدة. فهى لن تنخرط فى جهود للتهدئة دون تحقيق مصالح إسرائيل، ولذلك الاحتواء ليس أفضل سيناريو إلا إذا استطاعت القاهرة التفاهم مع واشنطن على ملف السودان، وسد النهضة، ولكن حتى لو حدث ذلك، واستقر الشاطئ الغربى، فمن مِن دول الخليج الذى سيقنع واشنطن بترتيبات الاستقرار فى الشاطئ الشرقى للبحر الأحمر؟
الشاهد أن أخطر حالة لأى إقليم هى تعدد الفاعلين مع تقارب ميزان القوة بينهم. لأن ذلك يفتح باب التنافس الذى قد يتطور إلى مستوى الغلبة ومن ثم الصراع. لذلك وجود قوة مهيمنة هو عامل استقرار حاسم لا غنى عنه. ولكن رحلة صعود القوة المهيمنة لا تمر عبر طريق مفروش بالحرير، وإنما تمر عبر مصاعب وتحديات. راجع مثلًا كيف كان رد فعل بعض القوى فى الإقليم على امتلاك مصر لحاملتى طائرات مروحية! فما بالك لو كانت حاملة طائرات مقاتلة! علمًا بأن بناء القوة يعتمد بالأساس على «عدم الدخول فى مواجهات» لأنها استنزاف للقدرات والطاقات. القوة المناوئة تعرف ذلك جيدًا، ولذلك تسلط أو تستعمل الميليشيات لاستنزاف المنافسين أو الخصوم.
من هنا، لا مفر أمام مصر من استكمال ما بدأته من دعم للصومال، وإريتريا، وجيبوتى، والسودان، مع الاستمرار فى الضغط على إثيوبيا لحين الوصول لتفاهم أو فرضه على من يقف ورائها. للأسف المعارك الدفاعية تأخذ وقتا طويلا لكنها تسفر عن نتائج أفضل بكثير من الانزلاق فى المواجهات.
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا