مواهب أدبية اختفت فى مجاهل التاريخ

الجمعة 1 أغسطس 2025 - 7:50 م

هذا الكتاب الصغير بقلم خيرى شلبى بعنوان «مراهنات الصبا» من إصدارات كتاب الثقافة الجديدة عام ١٩٩٧. لم أسمع عن هذا الكتاب من قبل بالرغم من أننى كنت أعتقد أن عندى جميع أعمال خيرى شلبى. أهدانى الكتاب الفنان السكندرى محمد صبرى بسطاوى.

يتحدث خيرى شلبى فى مقدمة الكتاب عن الشهرة، واعتبرها مثل السلطة مرض عضال. والإنسان فى غالبيته الكبرى مريض يحب السلطة والشهرة، وأنه يتحول من السلطة إلى جبروت لا حدود لطغيانه. وإذا أصاب أحدهم الشهرة لأسباب فنية أو علمية أو أدبية أو رياضية تلتصق به جراثيم النجومية فيتحول إلى طاووس يعامل أنداده باعتبارهم جمهورًا يمنحهم شرف المخاطبة. ويهدى الكتاب إلى صحبة حميمة قبل أن تلوثها نجومية كاذبة. والكتاب يتحدث عن مجموعة المصريين الموهوبين غير المشهورين.
‎يتحدث عن إبراهيم منصور الذى اعتبره مولودًا ليكون قاصًا. وكان متقنًا للغة الإنجليزية ولكن انشغاله بالسياسة وانضمامه إلى أحد التنظيمات اليسارية أوقعه تحت طائلة الاعتقال فطمس السياسى شخصية الأديب، وبعد أن قلمت حركة الضباط الأحرار كل التيارات السياسية عاد إبراهيم إلى حديقة الأدب ولكن كسياسى متأدب. ووجدت الطاقة الفنية الهائلة عند إبراهيم منصور متنفسًا فى مجلة جاليرى ٦٨ التى صدرت بعد النكسة تعبر عن تيار أدبى جديد ولكن المجلة الواعدة توقفت لأسباب مادية.
‎على مصطفى أمين شخصية ربما لم يسمع عنها معظمنا. ابن فلاح مستنير شديد الوسامة يصلح نجمًا سينمائيًا ولكن لم يكن موهوبًا فى التمثيل. التحق بمعهد الفنون المسرحية وأصبح ناقدًا مسرحيًا، وعندما انهار المسرح بعد الفترة الناصرية اختفى من المشهد بعد أن كان نجمًا لامعًا. وعلم خيرى شلبى أنه أصبح مواطنًا إنجليزيًا متزوجًا من سيدة إنجليزية ويعيش فى لندن وافتتح مطعمًا للفول والطعمية.
‎عباس محمد عباس: قرأ له خيرى شلبى قصتين منشورتين لفتتا نظره بقدرته على إحكام الحبكة والغوص فى أعماق الواقع اليومى الحافل بالقبح والغطرسة. أبوه كان مقاولا لأعمال البناء وكان يساعد والده ساعتين فى اليوم ويتفرغ للقراءة والثقافة والكتابة، وتعلم منه خيرى شلبى عادة أن يأخذ من بائع الصحف فى محطة الرمل الصحف والمجلات والكتب على أن يعيدها بعد أن يدفع بضعة قروش. وفاز بعدة جوائز للقصة القصيرة وجائزة كامل الكيلانى لقصص الأطفال، وانتقل إلى القاهرة ونشر مع مجموعة من الأصدقاء مجموعة قصصية ثم نشر رواية بعنوان «الليلة الثانية» على نفقته الخاصة وصدم من رقم التوزيع. اختفى عباس فتزوج وترهل وانصرف محسورًا من اليأس من الكتابة. يقول خيرى شلبى أنه كان خجولًا معتزًا بنفسه فلم يستطع الاندماج فى الوسط الثقافى بل اختفى تمامًا وحاول أن يجده ليستأذنه فى نشر روايته ويستعيد زمن الصبا الرائع، ولكنه لم يستطع الوصول إليه.
‎بكر رشوان: كان أحد أعضاء قهوة المسيرى الشهيرة بالجلسات الأدبية والشعرية فى دمنهور، وصادق خيرى شلبى فى الإسكندرية حيث كان يسكن فى بنسيون سيدة يونانية، وكان يكتب قصصًا قصيرة فاتنة وفاز بجائزة نادى القصة أكثر من مرة، وإلتحق بالتليفزيون كمساعد مخرج. وسافر إلى الخليج وغاب عشرين عامًا فانقطعت صلته بالأدب تمامًا وارتاح من الناحية المادية ولكنه فقد نفسه وروحه الفنية.
‎نجيب شهاب الدين: يقول عم خيرى إن فؤاد حداد هو بداية الشعر المصرى بالعامية فى العصر الحديث، وتلاه أفواج من الشعراء من الجيل الثانى، وفى الجيل الأحدث تميز نجيب شهاب الدين بموهبة ساطعة لها خصوصية فى المفردات والخيال وصفاء العبارة، وقد عرفه خيرى شلبى فى أواخر الستينيات على مقهى ريش ومقهى زهرة البستان. وكان الكثير من زبائن المقاهى من أصحاب الخناجر القوية الخاوية من كل مضمون. نجيب شهاب الدين كان يتمتع بقلب أبيض وروح مرحة وإنسانية فياضة. شقته كانت مفتوحة كدوار العمدة ولحن له الشيخ إمام بعض القصائد أبرزها سايس حصانك على القنا وتعالى. وبدأ ينشر قصائده فى مجلة سنابل. لا يدرى خيرى شلبى سببًا مقنعًا لهذا الإحباط الذى أصاب نجيب شهاب الدين وعطل ملكته الشعرية الخصبة الغنية. هل هى السياسة؟ هل هو الزواج بسيدة فرنسية وإنجاب أطفال منها جعلته مشتتًا؟ هل هو الانحراف والقرف الذى أصاب المصريين فى حقبة السبعينيات؟
‎أحمد هاشم الشريف: فى الستينيات كان ملحق الأهرام الأدبى والفنى الذى يشرف عليه د. لويس عوض يكتب فيه نخبة أدباء مصر، ولم تكن هناك فرصة لكُتاب القصة من الشباب فى النشر فى الأهرام، وكان منفذهم الوحيد هو المساء والمجلات الأخرى. أعجب لويس عوض بقصة لأحمد هاشم الشريف وقرر أن ينشر له قصة فى ملحق الأهرام على صفحة كاملة مثله مثل نجيب محفوظ وصدر أهرام الجمعة وفيه القصة منشورة بعنوان «اللصوص» ولكن اسم المؤلف لم يكن منشورًا، وعم السخط المجتمع الثقافى، هل سقط الاسم بالخطأ؟ وثبت أن الاسم سقط بفعل فاعل لأن الأهرام لا تنشر فى هذه المساحة إلا لكبار الكتاب. وتأثر يحيى حقى بشدة، ولم يستطع لويس عوض الدفاع عن الموقف. واستمر أحمد الشريف يكتب القصص القصيرة، وتوقع الجميع له مستقبلًا كبيرًا، حتى اختطفته مجلة صباح الخير ليصبح ألمع كتابها، ولكن الصحافة أكلت الأديب الكبير الموهوب، فسرعان ما هجر القصة إلى المقال والتحقيق الأدبى. واختفى الأديب الموهوب.
‎رءوف حلمى: فى أواسط الخمسينيات فاز بجائزة القصة رءوف حلمى الطالب بالثانوية، وكانت قصته قنبلة فنية لا يطلقها إلا كاتب كبير ذو تجربة حياتية كبيرة وعميقة. أعتقد البعض أن رءوف حلمى اسم مستعار وكاتب القصة قاص كبير. القصة عن طفل حصل على الشهادة الابتدائية فلم تسعه الدنيا من الفرحة وانطلق إلى البيت وقال لأبيه أنه نجح، فلم يكترث الأب وقال فقط «مبروك». وقالت له زوجة الأب «طيب». بقى الطفل وحيدًا تعيسًا فى البيت، وفجأة اصطدمت عينيه بصورة أمه الراحلة فى برواز معلق على الحائط. عادت له الفرحة من جديد ونظر إلى الصورة وقال أنا نجحت يا ماما وأخدت الشهادة الابتدائية، وخيل إليه أن أمه تبتسم، فلم تسعه الدنيا من الفرحة.
‎رءوف حلمى لم يظهر على الإطلاق على الساحة من أواسط الخمسينيات، واختفى اسمه من الذاكرة إلى أن فوجئ به خيرى شلبى واسمه مكتوب على مسلسل «مين مايحبش فاطمة» ولكن خيرى كان حزينًا على أننا فقدنا قصاصًا موهوبًا.
‎محمد حافظ رجب: أشاع نبوغ يوسف إدريس فى الأدب المصرى رواجًا فى القصة القصيرة. فظهر محمد حافظ رجب كعازف فى جوقة يعزف نفس الألحان ويكتب القصة الواقعية المستوحاة من تجربته الاجتماعية الفنية، وكانت قصصه تعبر عن أعماق الطبقة الكادحة. تعرف عليه خيرى شلبى فى الإسكندرية واكتشف أن القراءة والكتابة حياته وزاده وزواده. تحمس له المثقفون ولكنه لم يستطع أن يواجه الدنيا عاريًا ببراءة ومنطق أولاد البلد وبلا خبرة بالدسائس، فأصيب بتعب نفسى، وبعد أن أثارت أعماله ضجة وغيرت مذاق القصة القصيرة عاش حياة عادية صعبة، فترك القاهرة وعاد إلى الإسكندرية ليعيش فى عزلة حادة. وحديثًا شاهدت فيلما تسجيليا بديعا عن حياة محمد حافظ رجب وتغيرات حياته.
‎هذا الكتاب الصغير يحكى عن مواهب مصرية عظيمة دفنت ولم يسمع عنها أحد لأن الموهبة وحدها فى هذا الوطن لا تكفى وإنما تحتاج إلى سياسة واتصالات وتفاهمات ودعايات حتى تظهر الموهبة وتطفو. حينئذ تستمر. نحن فى حاجة للبحث عن المواهب المصرية واكتشافها وتشجيعها وترك الحرية الكاملة لها فى الكتابة والإبداع حتى تعود مصر إلى القيادة.
‎قوم يا مصرى مصر دايمًا بتناديك.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة