هل نحن على أعتاب عصر جديد من التعليم؟
هل نحتاج إلى تدريب الطلاب على مهارات جديدة؟
هل استخدام الذكاء الاصطناعى من قبل الطلبة يعتبر غشًا؟
أكتب هذا المقال قبل يوم من بدء الفصل الدراسى الجديد فى الجامعة التى أعمل بها، ولا أخفى سرًا أننى لا أشعر بنفس الثقة التى أبدأ بها كل فصل دراسى، ليس عن عدم أو قلة تحضير لكن لأننى لا أملك بعد جوابا شافيا عن معضلة تقييم الطلاب فى عصرنا هذا الذى يتصدر فيه الذكاء الاصطناعى الساحة، الطلاب سيستخدمون برمجيات الذكاء الاصطناعى مثل (ChatGPT) لا محالة، سواء شئنا أم أبينا، هذا يوفر عليهم مجهودا كبيرا.
قد يقول قائل لكن هذا يؤثر على جودة تعليم الطلاب، هذا صحيح، لكن لنواجه الحقيقة: أغلب الطلاب خاصة فى مرحلة البكالوريوس لا يهتمون إلا بالحصول على الشهادة حتى تمكنهم من الحصول على وظيفة، أما المهارات التى يحتاجونها للوظيفة فبإمكانهم التدريب عليها بأنفسهم عن طريق الدروس الموجودة على الانترنت أو حتى باستخدام الذكاء الاصطناعى نفسه.
البعض قد يقول، وهو على الحق، إن التعليم الجامعى ليس مجرد تعليم مهارات وتلقين معلومات، لكنه تجربة إنسانية وثقافية، وتدريب على مهارات تصلح لكل المجالات مثل التفكير النقدى. هذا طبعا ما يجب أن يكون، لكن للأسف هذا لم يعد يحدث فى أغلب الجامعات حتى قبل انتشار الذكاء الاصطناعى. العالم أصبح «عالم شهادات»، والجامعات أصبحت تتفاخر بملاعبها الرياضية وحفلاتها ومطاعمها أكثر من معاملها وقاعات محاضراتها، لكن هذا موضوع آخر.
أحب أن أشارك القارئ الكريم بعض الأفكار والتحليلات المتعلقة بكيفية تقييم الطلاب فى وقتنا هذا، لا أدعى أننى أملك الإجابات النهائية، ولا أعتقد أن أحدا يملكها حتى الآن على الأقل، لكنى أثق أن النقاش سيكون مثمرا، وأن الجامعات ستتأقلم وسيظهر نوع جديد من التعليم والتقييم يناسب التكنولوجيا الحالية، لكن الجامعات تتأقلم ببطء، فعلى الأقل نبدأ الآن بالنقاش.

إذا لم نفعل شيئا فسيحصل الطلاب على أعلى الدرجات ويحصلون على شهادة لا تعبر عن مستواهم الحقيقى.
فماذا نفعل؟
• • •
مستويات التعليم: ما هى؟ وماذا نريد منها؟
عندما نعطى الطالب كمًا من المعلومات، ماذا نريد منه؟ طبعا الإجابة السريعة هى أننا نريده أن يفهم المعلومة، لكن الإجابة ليست بهذه البساطة، يقول لنا الدكتور بنجامين بلوم المتخصص فى سيكولوجية التعليم إن هناك عدة مستويات من التعلم، هو قدم هذا التحليل أول مرة سنة 1956 لكن تم عمل تعديلات طفيفة فيما بعد سنة 2001 أى بعد سنتين من وفاته، مستويات التعليم المعدلة هى الآتى:
• التذكر: هذا هو أدنى مستوى، لكننا الآن فى عصر انتفت فيه الحاجة للحفظ، اللهم إلا حفظ كيفية الحصول على المعلومة أو مبادئ العلوم، لذلك فى عصرنا هذا لا ينبغى تقييم الطالب تبعا لحفظه.
• الفهم: هنا على الطالب فهم المعلومة وليس فقط تذكرها، مثلا الطالب قد يستطيع ذكر قوانين فيزيائية كثيرة، لكن فى هذا المستوى عليه أن يعرف أن هذه قوانين حركة، وتلك قوانين حرارة، إلخ.
• التطبيق: فى هذا المستوى على الطالب معرفة كيفية تطبيق المعلومة بطريقة صحيحة، إذا أعطينا للطالب عدة قوانين فيزيائية، فيجب عليه معرفة أنسب قانون لتفسير ظاهرة فيزيائية معينة.
• التحليل: هى مرحلة أعلى من السابقة لأن على الطالب ليس فقط فهم كيفية تطبيق القانون، لكن كيف تم صياغة هذا القانون؟ أى: كيف تم التوصل لهذا القانون؟ وهل هناك حالات يتعطل فيها القانون؟… إلخ.
• التقييم: إذا قام الطالب بتجارب معينة أو استخدم قوانين لتحليل ظاهرة، فى هذا المستوى على الطالب تقييم نتائج التجربة، وهل تبدو صحيحة؟ أم مفاجأة؟ هل القانون فسر الظاهرة بطريقة منطقية؟ أم أن هناك شيئا ناقصا؟
• الإبداع: فى هذا المستوى الطالب (أو الباحث) يمكنه اكتشاف قوانين جديدة، أو اكتشاف طرق جديدة لاستخدام قوانين موجودة. هذا المستوى نحتاجه فى طلاب الدراسات العليا والباحثين.
الآن مع وجود الذكاء الاصطناعى نحتاج من الطلاب مستويات الفهم والتطبيق والتحليل، مستوى التقييم والإبداع نحتاجه لمن يعمل بالبحث العلمى سواء فى الجامعات أو الشركات. إذا تقييم الطلاب فى عصرنا هذا يجب أن يركز على تلك المستويات الثلاثة التى ذكرناها. لكن كيف نفعل ذلك؟
• • •

مهارات جديدة بدلًا من القديمة
ذكرنا أننا نحتاج تقييم الطالب تبعاً للفهم والتطبيق والتحليل وهى المهارات التى يجب أن نعلمها للطالب فى الجامعة مع إعطائه المعلومة. لم يعد من المقبول أن نقول للطالب إن هذا هو القانون وهكذا يجب تطبيقه، بل يجب شرح كيف تم التوصل للقانون؟ هل هناك حالات لا يعمل فيها القانون بشكل صحيح؟ ولم ذلك؟
هذا لا ينطبق على العلوم التطبيقية فقط، ولكن على كل أنواع العلوم، عند إعطاء أية معلومة يجب شرحها بعمق، الجيل الحالى أقدر من جيلنا والأجيال السابق على التعاطى مع هذا النوع من العمق نظرا لامتلاكه وسائل لم نكن نحلم نحن بها. هذا معناه تنمية التفكير النقدى عن الطالب وتعليمه فن السؤال، فالسؤال الصحيح هو نصف الإجابة كما يقول القول المأثور وهو صحيح.
على الأستاذ أن يقبل بأن الطالب قد يعترض على معلومة قدمها الأستاذ، وهنا على الأستاذ أن يسمح للطالب بعرض وجهة نظره والدفاع عنها، وهناك احتمال أن يكون الطالب هو الأصح، على الأستاذ أن يعترف بذلك ويعطى للطلاب مثالا على أهمية التراجع عن رأى غير دقيق.
إذا فالمحاضرة لم تعد مجرد سرد للمعلومات لكن حلقة نقاش، وهذا يعود بنا للماضى أكثر من ألفى عام، إلى عصر أرسطو، الذى أبدع منهجا تربويا ينبغى أن نعود إليه بعد أن دار الزمان دورته. لكن كيف نقيم الطالب تبعا لما ذكرناه؟
...
الطالب سيستخدم برمجيات الذكاء الاصطناعى
الطالب سيستخدم تلك البرمجيات لعمل الأبحاث المطلوبة منه، لن نستطيع منعه. حتى إذا طلبت من الطالب أن يستخدم الذكاء الاصطناعى ثم يقوم بتحليل وتحسين إجابة الذكاء الاصطناعى فإنه سيستخدم الذكاء الاصطناعى نفسه لعمل ذلك، فما الحل؟ هناك بعض الاقتراحات لكنها مطروحة للنقاش وليست الجواب النهائى:
• عندما تطلب بحثا من الطالب لا تعطيه كل المعلومات، أى اجعل السؤال ناقصا، ثم ناقش الطالب عند تسليمه البحث فى افتراضاته التى استخدمها لتكملة السؤال.
• ناقش الطالب شفويًا فى النتائج.
• اسأل الطالب عن كيفية استخدامه لبرمجيات الذكاء الاصطناعى وكيف تأكد من صحة إجاباته.
تلك المقترحات كلها تعمد على مناقشة شفوية، هذا يعيدنا إلى عصر أرسطو كما أشرنا. طبعا هناك مشكلة، عدد الطلاب الكبير، وهناك أبحاث بدأت تظهر عن كيفية المناقشة الشفوية فى وجود أعداد كبيرة للطلاب.
• • •
برمجيات الذكاء الاصطناعى ظهرت ولن تختفى، بل ستتطور، وعلينا تطوير طرق تدريسنا لتتعامل مع هذا الواقع الجديد.
