(دولتك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل) ليست هذه عبارة جديدة، بل قد ترددت منذ عدة عقود عندما تحدث غلاة الصهاينة عن مشروع الدولة اليهودية فى فلسطين وامتداداتها لتشمل معظم مناطق الشرق الأوسط بحيث نكتشف فى النهاية أننا أمام إمبراطورية يهودية بديلا للدولة العربية الواحدة أو الكيان الإسلامى العربى المستقل.أود أن أشدد فى البداية على أن دولة إسرائيل المسيطرة على الأراضى المقدسة ليست بحال من الأحوال وعدًا إلهيّا كما يزعم غلاة اليهود منذ انعقاد مؤتمر بازل بجهود تيودور هرتزل ورفاقه من الآباء المؤسسين للحركة الصهيونية الحديثة كما عرفناها قبل قيام دولة إسرائيل وبعد إعلانها باعتراف دول وقع أصحابها ضحية مفاهيم مغلوطة بدءًا من الوعود الدينية وصولا إلى وعد بلفور الذى أعطى فيه من لا يملك ما لا يستحق على حد التعبير الشائع فى حينه. وأود أن أسجل هنا عددا من الملاحظات المرتبطة بهذا الطرح العبثى الذى تردده إسرائيل ومتطرفيها الجدد وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء وداعية العنف وزعيم التشدد وراعى التطرف الدينى واليمنى على نحو غير مسبوق، هذه الملاحظات هى:أولاً: قد تكون أحداث السابع من أكتوبر 2023 هى السبب المباشر لموجة العنف والتطرف التى نشهدها حاليا ولكنها بالقطع ليست السبب الوحيد فى ذلك، فإسرائيل كانت تبحث عن تكأة تبرر لها الدخول فى ذلك المخطط الخبيث الذى يستهدف القضاء على الطرح الدولى المتصل بالقضية الفلسطينية وقبول حل الدولتين بما يعنى قيام دولة فلسطينية مستقلة وهو الأمر الذى يؤرق الإسرائيليين ويبدو هدمًا مباشرًا لأحلامهم التوسعية غير الشرعية وأفكارهم التى تنطلق من فراغ.ولعلنا نتذكر الآن ذلك المشهد الذى يثير السخرية عندما قام نتنياهو من فوق منبر الأمم المتحدة بالحديث عن شرق أوسط جديد بحدود مختلفة وخريطة جديدة تعكس الواقع على الأرض مؤكدًا أن حدود الدول فى تلك المنطقة ليست خطوطًا مقدسة ولكنها مشروعات تاريخية قابلة للتغيير والتعديل، ورغم رد الفعل العربى والإسلامى لذلك الحديث الغوغائى الذى لا سند له تاريخيًا أو فكريًا إلا أن نتنياهو ظل يروج لذلك الوهم، والتقط ما قامت به حركة حماس فى 7 أكتوبر 2023 لكى يخلق منها مبررًا على نفس النهج الذى خلقت به الولايات المتحدة الأمريكية واقعًا دوليًا مختلفًا بعد 11 سبتمبر 2011 وتحطيم برجى التجارة العالميين فى نيويورك بفعل إرهابى مرفوض، ولكنه يسمح بالانطلاق نحو مشاهد جديدة لم تكن موجودة من قبل ولكن نتائجه هائلة. ثانيًا: تعتمد الأكذوبة الإسرائيلية على أساطير تلمودية لم يتأكد معها الحق أبدًا فضلاً عن أنها أفكار نقلية مرتبطة بدعاوى جرى توظيفها لخدمة أهداف الحركة الصهيونية التى لا يتجاوز عمرها قرن ونصف قرن من الزمان والتى وجدت فى الدول الغربية والمؤسسات الاقتصادية الأمريكية داعمًا قويًا إيمانًا منهم جميعًا بأن وجود إسرائيل هو خدمة كبرى لأهداف تلك الدول ومصالحها فى الشرق الأوسط مهبط الديانات السماوية وسبيل الطرق التجارية ومركز العالم القديم الذى تطل عليه قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا ويبدو البحر الأبيض المتوسط بحيرة حضارات مغلق لذلك الكيان الجغرافى الفريد. ثالثًا: ربما تكون اللحظة الحالية مواتية تمامًا لترويج هذه الأفكار الخبيثة ونشر تلك البضاعة الرديئة فالسيد القابع فى البيت الأبيض الأمريكى هو من المؤمنين بذلك دينيًا وسياسيًا، كما أن الظروف الدولية والأوضاع الإقليمية مواتية تمامًا لتحقيق ذلك الذى تسعى إسرائيل للوصول إليه، ولا يخلو الأمر فى ذهنى من عداء خافت للأمة الإسلامية والشعوب العربية والقارة الإفريقية، فغلاة الداعمين للحركة الصهيوينية لا يبتعدون كثيرًا عن أولئك الذين يتحركون ضد بعض الأجناس والقوميات والديانات، فالعنصرية وخطاب الكراهية والعداء العميق للشرق الإسلامى لازالت أمراضًا قابعة فى العقل الغربي، تتعامل معه وتؤثر فيه وتغذى نزعاته العدوانية التوسعية الاستيطانية. رابعًا: دعنا نعترف أن الشرق الأوسط يمر فى هذه المرحلة بفترة من أصعب الفترات، ولا يبدو متماسكًا بالقدر المطلوب، بل وأضيف إلى ذلك أنه يتراجع على الساحة الدولية والإقليمية بشكل ملحوظ، فالحرب الإسرائيلية الإيرانية قد دقت ناقوس الخطر لمواجهة طويلة ترتبط بالمشروع النووى لطهران ومخاوف إسرائيل الدائمة من قيامه، كما أنه لا يخفى علينا جميعًا أن إسرائيل قد حققت فى الفترة الأخيرة نجاحات على الأرض تمهد بها للسيطرة على شعوب الجوار وإعادة رسم خريطة المنطقة بشكل مختلف يتماشى مع أهدافها ويخدم مشروعها الصهيونى الشره الذى لم يتوقف أبدًا والذى يسعى إلى ابتلاع المنطقة فقد اتجه إلى إيران أولاً وقضى تقريبًا على حزب الله ثانيًا، وأخرج سوريا من معادلات الجبهة القوية المعادية لإسرائيل وها هو يتحرش بمصر بين حين وآخر رغم معاهدة للسلام يكاد يصل عمرها إلى نصف قرن حافظت عليها مصر دائمًا طلبًا للسلام الشامل والعادل وتطلعًا إلى قيام دولة فلسطينية وعاصمتها فى القدس الشرقية. ولم تتورع إسرائيل عن تبنى المشروعات المرحلية والحلول الوقتية مثل مؤتمر مدريد واتفاقية أوسلو وغيرهما من المسكنات التى برع فيها الإسرائيليون عبر العقود الطويلة من الخداع والتزييف والعبث السياسى والقومى كما شهدناها فى كثير من الأحداث الفارقة فى تاريخ الصراع الطويل تحت مسمى أزمة الشرق الأوسط والحل السحرى الذى تغنى به الرئيس الأمريكى دونالد ترامب تحت مسمى صفقة القرن وهو يعلم ونحن كذلك أنها ليست سوى خديعة دولية كبرى لتمرير المشروع الصهيونى والمضى وراء خريطة نتنياهو وتطلعاته السياسية. خامسًا: دعنا نعترف فى شجاعة مع النفس ونقدٍ للذات أن ضعف البنية السياسية لبعض الأنظمة العربية قد أدى إلى تراجع دورها الإقليمى وتأثيرها الشعبوى بحيث أخفق الخطاب السياسى المعاصر فى عرض الرؤية الصحيحة للمشهد الحالى بكل تداعياته والتوقعات منه. سادسًا: أدى الانقسام الفلسطينى وضعف التمثيل السياسى لمشروع المقاومة إلى ضعف القدرة على مواجهة ما يجرى وأن يسلب الجانب العربى عمومًا فاعليته فى مواجهة تيار التطبيع الذى يبشر به نتنياهو ويدعو إليه، كذلك فإن ما جرى فى غزة منذ 7 أكتوبر 2023 يشكل إهانة بالغة للعروبة وتيارها القومى وللإسلام وتأثيره الحضارى بحيث أصبح العرب هدفًا للتشهير السياسى بالإضافة إلى الإهانة التى لا تمحى تاريخيًا عندما نتذكر أن إسرائيل قتلت عشرات الآلاف من الفلسطينيين وهم جوعى يبحثون عن الطعام ومرضى لا يجدون العلاج، بل إن المئات منهم قد دفعوا حياتهم ثمنًا لانتظارهم المساعدات والحصول على لقمة عيش أو شربة ماء، وأنا أظن أن تضحيات الشعب الفلسطينى سوف تظل نورًا يضيء الطريق نحو السلام العادل والدائم ولو بعد حين!سابعًا: دعنا نقول بصراحة شديدة أن المقاومة ضد الاحتلال ليست قاطرة بلا وعى ولا مسيرة دون حساب، بل تحتاج دومًا إلى توازنات دقيقة وحسابات سياسية علوية وليست مجرد مواجهة عسكرية عمياء، بل تخضع كذلك لمنطق المكسب والخسارة ولا تكون أبدًا طريقًا فى اتجاه واحد بلا وعى أو بصيرة، ولنتذكر نموذج مقاومة غاندى للاحتلال البريطانى فى الهند لندرك أن المقاومة ليست فكرة واحدة أو أسلوبًا منفردًا ولكنها قرار سياسى محسوب بالدرجة الأولى, ثامنًا: إن انتشار المليشيات فى المنطقة العربية هو مؤشر سلبى يعنى أن حالة الانقسام والتشرذم سوف تظل صداعًا لا يتوقف يعانى منه العقل العربى ويدفع فاتورة باهظة لتصرفات جماعاتٍ عرقية أو مذهبية تسلب الدولة الوطنية مكانتها وتعبث بدورها فى المنطقة العربية. هذه ملاحظات تحيط بالوضع العربى الراهن والأحداث الجارية على الساحة الفلسطينية وكلها تؤكد أن الأكاذيب الإسرائيلية لم تتوقف وأن الدعاوى الزائفة للسيطرة لازالت مستمرة وفى مقدمتها عودة شعار (من النيل إلى الفرات) حتى يتم تفريغ المنطقة من البشر الواعى والفكر الرشيد لأصحاب الحق الذى لا يضيع أبدًا!
مقالات اليوم خالد أبو بكر عن عمرو موسى وعبد الناصر.. نقاط على الحروف سامح فوزي الشرع والمسيحيون.. هل من جديد؟ عاطف معتمد رحلة إلى خليج العرب سيد محمود عقدة عبد الناصر يحيى عبد الله نُخَبٌ وظيفية صحافة عالمية تمويل الأبحاث مقابل حرية التعبير.. معركة هارفارد مع إدارة ترامب قضايا اقتصادية سوق الغاز الأوروبية ومحادثات إنهاء حرب أوكرانيا
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك