نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالًا للكاتب العراقى وليد خدورى، يوضح فيه أن الأزمة فى أوكرانيا ليست مجرد صراع عسكرى، بل هى لعبة جيوسياسية معقدة تتشابك فيها المصالح الأمنية والسياسية والاقتصادية، وتؤثر قراراتها بشكل مباشر على أمن الطاقة فى أوروبا ومستقبل العلاقات الدولية.. نعرض من المقال ما يلى:
تدل الأخبار الصادرة عن اجتماع القمة الأمريكية - الروسية فى ألاسكا وما تبعتها من اجتماعات فى البيت الأبيض مع القادة الأوروبيين، أن هناك مؤشرات إيجابية على إمكان إنهاء الحرب الروسية - الأوكرانية، رغم عدم التوصل إلى اتفاق نهائى حول كيفية إنهائها، وعدم الإعلان حتى الآن إذا ما كانت ستتوقف عن طريق اتفاق لوقف إطلاق النار أو الهدنة، أم إذا ما كان سيتم فى نهاية الأمر توقيع معاهدة سلام. ولم يصدر كذلك بيان رسمى نهائى عن الشروط الجيوسياسية. هل من الممكن التوصل إلى اتفاق لتبادل الأراضى بين روسيا وأوكرانيا، أو تنازل أوكرانيا عن الأراضى المحتلة- رغم معارضة دستور البلاد للتنازل عن أراضى البلاد.
وماذا عن الدفاع عن أوكرانيا فى حال هجوم روسى مستقبلي: هل ستشارك الولايات المتحدة بجنودها أم بأسلحتها، أم ستكتفى بالدفاع الجوى عن أوكرانيا؟ وهناك طبعًا، المشاركة العسكرية الأوروبية فى حال انضمام أوكرانيا إلى اتفاقية السوق الأوروبية المشتركة. هل أوروبا مستعدة فعلا لمحاربة روسيا من دون مساندة الولايات المتحدة؟
تدل هذه الاحتمالات على بعض البنود التى سيتوجب الاتفاق عليها قبل إنهاء هذه الحرب. وما سفر القادة الأوروبيين إلى واشنطن بعد قمة ألاسكا للاستماع إلى أجوبة واضحة من الرئيس ترامب عن نتائج المفاوضات الثنائية مع الرئيس بوتين، إلا دليل على ذلك. وقد اجتمع ترامب مع الأوروبيين فى ظل قلقهم من «اتفاقية ميونيخ» ثانية مماثلة للاتفاقية التى تمت مع ألمانيا النازية قبل بدء الحرب العالمية الثانية. رد وزير الخارجية الروسى على هذا التخوف، بتصريح تليفزيونى، قائلًا: «نحن أيضًا لا نثق بالسياسات والتعهدات الأوروبية. لكننا فى الوقت نفسه، ننفذ ما نلتزم به. فإذا كان الأوروبيون لا يثقون بسياساتنا، فهذه مشكلتهم».
هذه المقدمة الجيوسياسية مهمة لتفهم الطريق الصعب لإنهاء حرب أوكرانيا، وما الأهداف الروسية؟ هل هى إيقاف محاولات ضم أقطار أوروبا الشرقية المتاخمة للحدود الروسية إلى الحلف الأطلسى، الأمر الذى يعنى فى نهاية المطاف حربًا مع القوى العسكرية الغربية بأكملها، أوروبا وأمريكا أم أن الهدف فقط احتلال أجزاء من شرق أوكرانيا، التى كانت على صلة قريبة بروسيا تاريخيًا؟
• • •
إن افتراض صعوبة الحصول على سلام واضح وسريع، قد يعنى على ضوء تجربة السياسات الأمريكية الاستمرار فى العقوبات على روسيا، ومعها فى ذلك الحظر الأوروبى على الغاز الروسى.
هذا الافتراض سيعنى بدوره استمرار تنويع مصادر استيراد الغاز إلى السوق الأوروبية، وذلك من خلال تنويع المصادر، وأهمها الآتى: الغاز المسال من الولايات المتحدة وقطر والجزائر وموزمبيق ومصر وإسرائيل ومحاولة تشييد موانٍ إضافية لاستيراد إمدادات متزايدة من الغاز المسال من دول أخرى. هذا بالإضافة إلى الاستيراد عن طريق الأنابيب من الجزائر- نيجيريا عبر الخط الذى تم تشييد معظمه عبر الساحل الإفريقى الغربى وليبيا والنرويج وأذربيجان.
أما فى حال افتراض التوصل إلى اتفاق سلام ورفع الحظر الأمريكى - الأوروبى عن النفط الروسى، فستتوافر لدى أوروبا إمدادات وافية من الغاز، نظرًا لتمكنها حينها من إحلال تنافس كبير بين الدول المصدرة، الأمر الذى قد يساعدها فى المفاوضات السعرية للغاز المستورد.
إن عودة الأمور إلى سياقها السلمى إلى أوروبا ستعنى إمكانية إعادة استيراد كميات ضخمة من الغاز الروسى عبر شبكات تصدير الغاز الروسى التى تم البدء فى تشييدها منذ عام 1985، والتى زودت السوق الأوروبية بأغلب إمداداتها الغازية حتى بدء حرب أوكرانيا. وفى الوقت نفسه، سيُفتح المجال أيضًا لتسلم صادرات الغاز المسال الأمريكى.
من المعروف أن الغاز يشكل أحد موارد الطاقة الرئيسة لأوروبا. وتكمن مشكلة أوروبا فى حاجتها المستمرة فى كل الحالات إلى ضرورة استيرادها للغاز بكميات ضخمة، ناهيك عن النفط. هناك محاولات، كما فى الولايات المتحدة، لتوليد الطاقة من التركيز أكثر على المفاعلات النووية. وتتزعم فرنسا هذا الاهتمام النووى أوروبيًا. لكن الطريق النووى طويل وباهظ الثمن بخلاف الولايات المتحدة التى تعمل على إعادة تأهيل فاستعمال المفاعلات المتوسطة الحجم، التى تم تقاعدها.
فى حال الحصول على اتفاق سلام واضح فى مسألة أوكرانيا، يتوقع أن يحصل تنافس حاد فى مسألة التصدير من قبل كل من الولايات المتحدة وروسيا.
فترامب يصر على تبنى سياسة «أمريكا أولًا»، بالإضافة إلى تحسين الميزان التجارى ما بين الولايات المتحدة وأوروبا، الذى هو حاليا لصالح أوروبا. فمن الممكن أن تختار الأسواق الأوروبية زيادة استيراد الغاز المسال الأمريكى لسد هذا العجز فى الميزان التجارى ولتلبية طلبات ترامب. لكن هذا الخيار، كغيره من الخيارات، يعتمد على سعر الغاز. ومن الواضح أن سعر الغاز المسال يفوق عادة سعر الإمدادات الغازية بالأنابيب.
• • •
هناك عوامل أخرى تلعب دورًا مهمًا.. إذ يتوقع أن تستمر الدول الأوروبية فى تنويع مصادر استيرادها للغاز، لكى لا تعتمد مرة أخرى على استيراد الأغلبية الساحقة لإمداداتها من دولة واحدة، كما كان استيرادها الضخم من روسيا قبل 2022.
وفى هذه الحال، يُتوقع منافسة قوية سعرية وجيوسياسية ما بين الغاز المسال الأمريكى وغاز الأنابيب الروسى. سيختلف التعامل الأوروبى ما بين الطرفين. ففى حال الولايات المتحدة، يتم تصدير الغاز المسال من قبل شركات خاصة. لكن هذه الشركات تواجه ضغطًا من الرأى العام الأمريكى كلما زادت من صادراتها، لأن زيادة التصدير تؤدى إلى تقليص إمدادات الغاز للسوق الأمريكية، ما يزيد من أسعار الغاز المحلية فى الولايات المتحدة. لكن الأمر يختلف كليًا من الجانب الروسى، إذ تقوم شركة «غازبروم» بتصدير معظم الغاز الروسى إلى أوروبا. وتشارك الحكومة الروسية بحصص ضخمة أو لديها نفوذ واسع فى معظم الشركات النفطية.
وبالتالى، سيتوجب فى ظل هذه العوامل، أن تلعب الأسواق الأوروبية دورًا دقيقًا فى كل من التوازن ما بين سياسة تنويع المصادر، والتوازن ما بين الإمدادات الأمريكية والروسية. وطبعًا عندما نتكلم عن أوروبا، فالحديث عن أسواق دول متعددة، حيث تقليديًا، استوردت الدول الشمالية منها الغاز الروسى عبر الأنابيب، رغم أنها -وبالذات ألمانياـ قد شيدت موانى متخصصة منذ حرب أوكرانيا لاستيراد الغاز المسال. هذا، وقد اعتمدت دول أوروبا الشرقية على الغاز الروسى المصدر عبر شبكة الأنابيب الروسية الواسعة إلى أوروبا. ومن جهتها، اعتمدت أقطار أوروبا الجنوبية والغربية على استيراد الغاز، إما عبر الأنابيب أو كغاز مسال من الدول الإفريقية أو الشرق المتوسطية.
أما بالنسبة إلى سياسة الاستيراد من الولايات المتحدة وروسيا، فستتغلب فيها العوامل الجيواستراتيجية والمعادلات السعرية، نظرًا إلى الإمدادات الضخمة التى يمكن استيرادها من الطرفين والضغوط السياسية المتوقعة لكل طرف فى تشجيع التصدير إلى السوق الأوروبية الضخمة.