من المثير جدًا أن يظل الرئيس جمال عبدالناصر محور نقاش متجدد حوّل تجربته فى حكم مصر؛ فخلال أقل من أسبوعين يتجدد هذا النقاش، مرة أخرى، سواء على خلفية تصريحات السيد عمرو موسى حول ديكتاتورية الزعيم أو بسبب حيرة القراء الشباب فى التعامل مع إيمان كاتب يسارى مثل الراحل صنع الله إبراهيم بوطنية عبدالناصر رغم الإقرار بديكتاتوريته التى لم تعد محل شك.
نعرف أن تلك العقدة ظلت ملازمة لأغلب الشيوعين المصريين الذين سلموا بزعامة ناصر رغم التنكيل بهم فى سجونه التى استضافتهم فى إقامات طويلة أسفرت عن مكتبة كاملة من المؤلفات التى تنتمى إلى (أدب السجون)، وهم فى ذلك بخلاف الإسلاميين وأنصار الوفد الذين ما زالوا ضد عبدالناصر لأسباب معروفة فقد نكل بالفئة الأولى وهمش الفئة الثانية واستبعدها تماما من المشهد العام.
هتف بعض اليساريين رغم السجون خلف أحمد فؤاد نجم (وإن كان جرح قلبنا كل الجراح طابت)، والواضح أنهم قبلوا بشعار صاغه عبدالرحمن الأبنودى باختصار، وهو (يعيش جمال حتى فى موته) ومن ثم تم الإقرار بأن عبد الناصر ليس فردًا، وإنما ظاهرة تاريخيّة فريدة يصعب تناول تاريخ العرب فى القرن العشرين دون التطرق لها والتوقف أمامها أكثر من مرة.
تأسيسًا على هذا التسليم يكتسب كتاب (بالروح بالدم أو الناصرية ومواريثها) أهمية كبيرة، لأن معرفة المؤلف أليكس راول بالعالم العربى اكتسبت عمقًا تجاوز حدود الاستشراق؛ فقد عاش وأقام فى لبنان عدة سنوات، وكتب مقالات فى كبرى صحف العالم حول الثقافة والأدب العربى والواقع السياسى فى المنطقة، وبالتالى لمس عن قرب الإشكالات المرتبطة برمزية جمال الذى كاد يتحول من اسم إلى معنى رغم محاولات الرجم التى لا تتوقف، وهو ما لاحظه المؤلف خلال مروره الدائم على تمثال جمال عبدالناصر فى منطقة عين المريسة فى بيروت، حيث لا يكف السائحون عن التقاط الصور معه.
الكتاب صدرت ترجمته العربية مؤخرًا عن دار الجديد اللبنانية التى لا تزال واحدة من أهم دور النشر العربية وأكثرها جدية فى اختيار الكتاب وصناعتها.
تعتنى (الجديد) بالكتب كما يعتنى صديق بصديق أو محب بمحبوبته فالكتاب هو رحلة حب كاملة بكل المعانى.
ويستطيع القارئ أن يصل بسهولة لأدلة الحب تلك وبلا معاناة لأنه من النادر جدًا العثور على خطأ فى كتاب يصدر عن الجديد التى تديرها الصديقة رشا الأمير بالحب اللازم لنشر كتب تعى مسئوليتها لبناء وعى القارئ.
يقر مؤلف الكتاب فى المقدمة بصعوبة الكتابة عن ناصر لأن الأحكام بشأنه متناقضة والجدل حوله لا يزال مستعرًا ولا منطقة وسطى للحكم عليه إذ لا يزال بعد أكثر من 55 عامًا من وفاته بين التأليه والشيطنة وبعد مرور كل تلك السنوات لا تزال سيرته ملهمة وتلهب مشاعر الملايين.
أكثر ما يستغربه المؤلف أنه لم يجد تقييمًا جادًا للزعيم كظاهرة تاريخيّة، وهى نفس الملاحظة التى ذكرها المؤرخ الصديق الدكتور خالد فهمى فى أحد البرامج التليفزيونية، لأن المراجع وحدها لا تعين الباحث فى فهم تعقد التجربة التى قدم المؤرخ شريف يونس تحليلًا لا يزال هو الأهم حول آثارها فى إطار علاقة الحكم بالجماهير، وذلك فى كتابه المهم (نداء الشعب) الذى نشرته دار الشروق.
ما يجعل من البحث حول عبدالناصر مثيرًا أن عمليات الاشتباك حول سيرته تتجدد، وقد دفعت بها مواقع التواصل الاجتماعى إلى ضفاف جديدة.
يستدل المؤلف بتعليقات كثيرة للصديقين خالد منصور وأحمد ناجى، كما أنه يتجنب إعادة إنتاج ما هو شائع من سرديات حول ديكتاتورية الزعيم أو حول علاقته مع الغرب وإسرائيل إلا فى الحدود التى تخدم فكرته الرئيسية التى تدور حول تأثيره على العالم العربى انطلاقا من شىء من (الكولاج) يدمج لقاءات حية أجراها المؤلف مع مصادر ومراجع ووثائق ومؤلفات متاحة على أرشيف مكتبة الإسكندرية انتهت به إلى صياغة نسيج حي أو سردية متماسكة حدد نطاقها الجغرافى بسبع دول مؤثرة فى المجال المغناطيسى لحركة الزعيم كما أنه نظر إلى الناصرية كمسار سياسى متواصل مرتبط بفضل ما رسّخته حركة الضباط الأحرار عبر تشجيع ضباط آخرين فى بلدان أخرى على الوصول إلى السلطة وتعميم النموذج الناصرى بطريقة أو أخرى من خلال ما يسمى الآن بتصدير الثورة.
يلح الكتاب على الإرث الناصرى وتأثيراته فى تجارب الحكم فى العراق وسوريا وليبيا واليمن والأردن بل فى لبنان التى عرفت صراعًا سياسيًا من نوع آخر لازم سنوات ما بعد الاستقلال هناك.
ورغم متابعة الكتاب لخفوت هذا التأثير بعد الهزيمة التى تعرضت لها مصر فى ١٩٦٧ لكنه يختبر كذلك المقولات التى أظهرتها الاحتجاجات الجماهيرية التى اكتسحت الشارع العربى فى 2011، والتى كانت تعبر عن حاجة الناس إلى أنظمة حكم ديمقراطية تحقق العدالة الاجتماعية، وتتطلع فى نفس الوقت إلى بناء زعامات جديدة بنفس المواصفات القياسية تنجز مهام تاريخية أخرى.