تعالت، خلال الفترة الأخيرة، أصوات نُخب إسرائيلية، تدعو إلى وقف الحرب فى غزة، وهى نخب لها وزنها داخل المجتمع الإسرائيلى، وخارج إسرائيل، أيضًا، من بينهم أدباء كبار، وفنانون ومشتغلون فى حقل الثقافة، وأكاديميون، وباحثون بمؤسسات التعليم العالى.
يبدو، للوهلة الأولى، وكأن النخب فى هذا المجتمع العدوانى قد استفاقت وأدركت مدى وحشية وهمجية المؤسستين السياسية، والعسكرية، لكن التدقيق فى التوقيت، الذى تعالت فيه أصواتها، يدرك بوضوح أن الصورة الذهنية السيئة لإسرائيل فى العالم، كانت السبب الرئيس وراء هذه (الاستفاقة)، وليس أى دافع أخلاقى، وإلاَّ لماذا لم تتحرك قبل شهر أو اثنين، أو قبل سنة، مثلا؟!!
ثمة سبب ثانٍ يفرغ البيانات، التى أصدرتها، من مضمونها، يتمثل فى صدورها، كلها، تقريبًا، فى توقيت واحد، وكأن عصا مايسترو ــ سياسى ــ قادت هذه الحملة المتناغمة، لتبييض وجه إسرائيل، الذى لن تبيضه كل مساحيق العالم، ولامتصاص الغضب لدى دوائر عديدة فى العالم.
من الأدباء، الذين لهم وزن على الساحة الدولية، وترجمت معظم أعماله إلى لغات أجنبية، الأديب، إتجار كيرت، الذى اتهم إسرائيل، صراحة، فى مقابلة صحفية، أجرتها معه صحيفة كوريرى ديلا سيرا، الإيطالية، ذات الانتشار الواسع، بأنها «تدمر مدنًا كاملة، وتستخدم التجويع سلاحًا فى الحرب»، وطالب «بوضع حد للمذبحة فى غزة»، وهو توصيف واقعى، وجيد، لما يرتكبه الجيش الهمجى، اللا أخلاقى من أهوال يشيب لها الولدان فى غزة، لكنه راوغ فى مسألة ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية فى غزة، حين سُئل خلال المقابلة، رغم أن كل الشواهد تؤكد ذلك، لأن الاعتراف بارتكاب إبادة جماعية، وصمة عار لا تُمحى، إذ قال: «النقاش بشأن مصطلح إبادة جماعية مهم حقًا، لكن يجب وقف المذبحة، وإطلاق سراح (المخطوفين)، ثم نستدعى، بعد ذلك، قضاة يحددون التوصيف الدقيق».
زعم، كيرت، خلال المقابلة الصحفية، أن 20% فقط من الإسرائيليين يؤيدون استمرار الحرب، وأنهم الآن فى مواقع القوة، واصفًا إياهم بأنهم مجموعة من العنصريين، الماشيحانيين، والمتعصبين دينيا، وبأنهم شريحة صغيرة على غرار النازيين الجدد فى ألمانيا. والحقيقة، أن المؤيدين لاستمرار الحرب فى إسرائيل، يتجاوزون هذه النسبة، وأن القوى العنصرية، والماشيحانية تتمدد فى المجتمع الإسرائيلى، الذى ينزاح، بوضوح، نحو اليمين الفاشى، على حساب قوى يسارية، باتت منعزلة وهامشية.
ثمة أديب، بارز، آخر، له حضور على الساحة الدولية، هو، دافيد جروسمان، يقارب نصف الحقيقة، أيضًا، كسابقه، ولم ينبس ببنت شفة إلاَّ عندما صارت هناك اتهامات تلاحق إسرائيل فى جميع أنحاء العالم بتجويع الفلسطينيين وبالسعى لطردهم. صحيحٌ، أنه يرى، فى حديثه إلى صحيفة لا ريبوبليكا، الإيطالية، أن ما يحدث فى غزة إبادة جماعية، لكنه، يرى، كسابقه- وكأن هناك من لقنهما الإجابة- أن «الأمر يتعلق بمصطلح قانونى»، ويحذر من «تمكين (المعادين للسامية) من استغلال المصطلح»، داعيًا إسرائيل إلى «إيجاد وسيلة لفصل الرابطة التى نشأت بين إسرائيل وإبادة جماعية».
يعترف، جروسمان، بأن الربط بين كلمتىْ إسرائيل وتجويع، سواء فى الحديث مع أصدقائه، أم فى عناوين الصحف «ربط مدمرٌ ومربكٌ على المستوى الشخصى»، لكنه، يأبى، فى الوقت نفسه، أن يحمل إسرائيل، وحدها، المسئولية، قائلًا: «لا يمكن أن تكون إسرائيل المتهمة الوحيدة بكل الأفعال البشعة».
يتهم جروسمان، ويا للسخرية، الفلسطينيين، بالـ «تعصب»، لكونهم يستعملون حقهم المشروع فى مقاومة الاحتلال، ولدفاعهم عن مقدساتهم، بدلًا من أن يتهم المتعصبين، التوسعيين، الحقيقيين، من المتطرفين اليهود، قائلًا: «كان بوسع الفلسطينيين أن يحولوا غزة إلى مكان مزدهر، لكنهم استسلموا للتعصب».
• • •
من ناحية ثانية، وقع ما يزيد عن ألف من الفنانين، والأدباء، والعاملين فى الحقل الثقافى والإعلامى، من بينهم أدباء، ومطربون، وموسيقيون كبار، على عريضة ضد استمرار الحرب فى غزة، حملت العنوان التالى: «بيان الجماعة الثقافية»، جاء فيها: «أوقفوا الأهوال فى غزة. نحن رجال ونساء الجماعة الثقافية والفن فى إسرائيل، نجد أنفسنا، ضد رغبتنا وقيمنا، شركاء، بصفتنا مواطنين إسرائيليين، فى المسئولية عن الأحداث المخيفة والرهيبة فى قطاع غزة، خاصة قتل الأطفال وغير المتداخلين (من المدنيين العزل)، والتجويع، وطرد السكان، وتدمير مدن غزة بلا هدف.
نحن ندعو كل من يشارك فى وضع هذه السياسة وفى تنفيذها إلى أن يكفوا عن ذلك! لا تصدروا أوامر غير قانونية، ولا تمتثلوا لها! لا ترتكبوا جرائم حرب! لا تهملوا المبادئ الأخلاقية والإنسانية وقيم اليهودية. أوقفوا الحرب. أطلقوا سراح (المخطوفين). هذا هو وقت إسماع صوتنا.
• • •
ثمة علامات استفهام حول توقيت نشر العريضة! لماذا فى هذا الوقت، تحديدًا، الذى يتهم فيه العالم أجمع إسرائيل بتجويع الفلسطينيين، وبالسعى لطردهم؟! يجد المدقق فى صياغة كلمات العريضة، التى تبدو، للوهلة الأولى، لاذعة، أنها صياغة حذرة للغاية، وعقيمة. انظر، على سبيل المثال، الصياغة الحذرة للجملة، التى تتحدث عن الإبادة الجماعية: «لا ترتكبوا جرائم حرب»!، التى لا تشير، بوضوح، إلى ارتكاب إسرائيل، بالفعل، جرائم حرب. لم يستجب لدعوة التوقيع على العريضة سوى نسبة ضئيلة من الأدباء والفنانين، والعاملين فى الحقل الثقافى، وامتنع السواد الأعظم منهم عن التوقيع عليها، منهم مطرب شهير، يُدعى، عيدان عميدى، أصيب خلال الحرب، اتهم الموقعين بأنهم «مغيَّبون، وناشرون للأخبار الكاذبة»، وبأنهم «مجموعة من المنتفعين، المستمرين فى ترديد الحماقة، والجهل، والأكاذيب».
توافقت الحكومة والمعارضة على رفض ما ورد فى العريضة، إذ كتب وزير الثقافة، ميكى زوهر، فى تغريدة على منصة x: «اخترت أن أرد على الفنانين، الذين وقعوا على عريضة الهلاوس، وهاكم موقفى: أنتم تُخجلون وتهينون جمهورًا عريضًا هائلًا ممن يخدمون فى الاحتياط، ومن مقاتلينا ومقاتلاتنا، وبخاصة كل أولئك الذين (استشهدوا) وقتلوا فى (سبيل الله)، من أجل الحصول على حب جمهور ضئيل جدًا من الجمهور فى إسرائيل وباسم أخلاق منحرفة. يجب عليكم أن تجروا حسابًا حقيقيًا مع النفس وأن تعدلوا عن الخطاب المخزى، الذى وقعتم عليه»؛ وأعرب كثير من رؤساء البلديات فى إسرائيل عن مقاطعة الفنانين الموقعين على العريضة؛ أما يائير لابيد، زعيم المعارضة، فقد انتقد العريضة، وعبَّر عن دعمه للمطرب، المشار إليه سابقًا، قائلًا: «عيدان يعرف ما يحدث فى غزة أفضل منهم. تشرح العريضة ما يقوله عنا كارهو إسرائيل، من دون شرح الطرف الآخر».
• • •
من المفارقات، الساخرة، أن كاتبًا للأغانى من الموقعين على العريضة، كتب عام 1997م، أغنية باسم «غزة الجديدة»، لا يختلف مضمونها عن مضمون رؤية الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، التى تنم عن أطماع فى غزة، تقول كلماتها: «اغسل وشك/ اتسرح/ كلها ساعة سفر/ كتير شوية؟ فليكن. تعال نروح نقعد على نرجيلة/ فى حوش فاطيم/ فى غزة الجديدة/ جبت كاسيت قنبلة للطريق (...) فين إيه؟ فى وش البحر على طول (...) فى غزة الجديدة/ كازينو أخو مونت كارلو (...) هنروح نادى النمر الأسود/ فيه مطرب إيطالى/ من مصر/ يستاهل/ وفرق روك من مخيمات اللاجئين/ بتعزف حاجات سُخنة (...) بعد كده/ نتسلطح ع الرمل الرطب (...) غزة الجديدة/ جو لطيف فى القطاع/ هندمن القطاع…».
• • •
فيما يخص النخب الأكاديمية، أرسل بضع مئات من الأكاديميين، والباحثين من جامعات مختلفة، خطابًا إلى رؤساء الجامعات، طالبوا فيه باستخدام ثقل الأكاديميا من أجل وقف الحرب، جاء فيه: «نحن أعضاء وعضوات السلك الأكاديمى بمؤسسات التعليم العالى فى إسرائيل، ندعوكم للعمل بشكل فورى من أجل استخدام كل ثقل الأكاديميا الإسرائيلية من أجل وقف الحرب الإسرائيلية فى غزة. نحن نتحدث عن فصل مثير للقشعريرة والصدمة من جرائم الحرب، ومن جرائم حتى ضد الإنسانية. كلها من صنع أيدينا. لن يغفر التاريخ لنا. لن نغفر نحن لأنفسنا».
لم تستجب جامعة واحدة من الجامعات التى ينتمى إليها مرسلو الخطاب، إلى صرخة هذه الحفنة من الأكاديميين، بل واستهجنتها، إذ قالت جامعة برإيلان: «تعرب الجامعة عن دعمها الكامل لجنود جيش (الدفاع) الإسرائيلى، الذين من بينهم كثيرٌ من الطلبة والباحثين، والخريجين. نحن نشد، فى هذه الفترة المعقدة، على أيدى من يؤدون ومن تؤدين الخدمة العسكرية. لا نتشارك المقولات التى تضر باللحمة الاجتماعية»؛ وتنصلت الجامعة العبرية من الموقعين على الخطاب: «كل عضو وقَّع على الخطاب فعل ذلك على مسئوليته فقط والتوقيع يمثله هو فقط»؛ والأمر، نفسه، فعلته جامعة رايخمان. وطالب مدير عام حركة «إن شئتم»، الصهيونية، الجامعات برفد الموقعين على الخطاب: «نحن ندعو رؤساء الجامعات إلى تقيؤ من يؤيدون العدو فى وقت الحرب. من المثير للقرف أن ترى كيف لا يستطيع محاضرون فى الجامعة قول من هو العدو بوضوح».
تؤدى النخب، فى إسرائيل، دورًا وظيفيًا، سواءٌ تجاه الداخل الإسرائيلى، للإيحاء وكأن المجتمع به قوى تمارس رقابة أخلاقية على صانع القرار، أم تجاه الخارج، خاصة الدول الغربية الديمقراطية، للإيهام، بأنها تشاركها قيم التعبير عن الرأى والاحتجاج. ليس لهذه النخب تأثير على صانع القرار الإسرائيلى، الذى يعرف وزنها وحجمها، ومن ثم، فهو يمضى قدمًا نحو احتلال القطاع، وارتكاب مزيد من الجرائم والأهوال.