مصر لا تبنى بالأوهام، ولا تُقاد بالهتاف، ولا تُصان بالتقديس الأعمى. إنما تُبنى على وعي بتاريخها، تضع فيه الإنجازات فى موضعها كى تستلهمها الأجيال، وتضع الإخفاقات فى نصابها كى لا تتكرر. هذه هى سُنّة الأمم الكبرى: لا تُنزّه قادتها عن الخطأ، ولا تمحو لهم إنجازًا، بل تُدرك أن الزعماء بشر، وأن الوطن وحده هو الباقى والأعظم.
من هذا المنطلق خرج مشروع «كتابيه»، السيرة السياسية والدبلوماسية للسيد عمرو موسى فى مجلدين، شرفت بتحريرهما وتوثيقهما، واستغرق العمل فيهما سنوات. لم يكن الهدف صناعة مديح ولا هجاء، بل تسجيل شهادة رجل عاش قلب القرار السياسى والدبلوماسى، ورأى بعينيه ما جرى لمصر فى نصف قرن من تاريخها الحديث.
*
بمجرد صدور الجزء الأول: «كتابيه: النشأة وسنوات الدبلوماسية»، انطلقت الحملة. لم يُقرأ الكتاب فى شموله، ولم تُراجع شهاداته ووثائقه، بل اجتزئ مقطع واحد ليُتخذ ذريعة لاتهام صاحبه بالانتقاص من الرئيس جمال عبدالناصر.
والحكاية كما وردت فى الكتاب واضحة: خلال عمل السيد عمرو موسى فى سفارة مصر ببرن عاصمة سويسرا، كان الرئيس عبدالناصر يتبع نظامًا غذائيًا علاجيًا بعد إصابته بالسكرى سنة 1958، فكان يُرسل من يطلب أطعمة بسيطة خاصة بـ«الرجيم». وكان الموظف المكلّف بإحضارها رجلًا يبالغ فى القول: «مصر هى أكبر دولة فى الدنيا، والرئيس عبد الناصر أعظم وأقوى رئيس فى العالم، لا أمريكا ولا روسيا».
ومع أن موسى كان شديد الحب لعبدالناصر آنذاك، إلا أنه كان يضحك من هذا المنطق الذى يُغطى الهتاف فيه على الواقع، وعلّق قائلا: «مع تقديرنا الكبير له، لم يكن أهم رئيس فى العالم».
هل كان هذا انتقاصًا من الزعيم؟ إطلاقًا. كان توصيفًا لعقلية سائدة، لا مساسًا بمكانة عبد الناصر. ولتوضيح النوايا، أضفنا هامشًا يبيّن أن الأمر كان علاجًا طبيًا لا ترفًا غذائيًا. لكن، كعادة زمن «التريند»، لا أحد يقرأ، وإن قرأ يجتزئ، وإن اجتزأ وجد على السوشيال ميديا من يُشعل النار.
*
لم يلتفت أحد إلى ما سجله موسى بإجلال عن عبدالناصر: رفضه الانخراط فى الأحلاف العسكرية، تأسيسه سياسة عدم الانحياز، دعمه القوى لحركات التحرر فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، والمكانة الباهرة التى بلغتها مصر فى الأمم المتحدة. كل ذلك طُمس عمدًا، وكأن المطلوب ليس فهم التجربة فى شمولها، بل صناعة خصومة على جملة.
كما أننى كتبتُ فى مقدمتى المنهجية المنشورة فى صدر الجزء الثانى من السيرة: «سنوات الجامعة العربية»، شهادة صريحة قلت فيها: «على مدى عملى مع السيد عمرو موسى، أدركت مقدار حبه وتقديره لشخص الرئيس عبدالناصر، لكن هذا الحب وذاك التقدير لم يمنعه من أن يتحدث بموضوعية عن إخفاقات العهد، كما فعل حين تناول حقب الملك فاروق والرئيس السادات والرئيس مبارك. لم يُقدّس أحدًا، ولم يتجنى على أحد. وضع الجميع فى ميزان التاريخ». لكنها طبيعة زمن «السوشيال ميديا»: لا أحد يقرأ، وإن قرأ لا يمحّص، وإن اجتزأ وجد من ينفخ فى النار، كما أشرت توًا.
*
ولكن حين تجاوزت الحملة حدودها فى الأيام الأخيرة، من بعض من يرتدون قميص عبدالناصر بالباطل، عبر اجتزاء مقتطفات من حوار تليفزيونى جرى بثه قبل أكثر من عام، دار بينى وبين السيد عمرو موسى حديث طويل بشأن هذه الحملات التى صارت موسمية، وطالبته بضرورة وضع النقاط على الحروف بشأن ما يعتبره البعض هجومًا من جانبه على الرئيس عبدالناصر، إعمالًا لحق أجيال ربما لا يسعفها وقتها ولا صبرها للرجوع للكتب، بدلًا من تركها نهبا لمدمنى «التريند». وبالفعل لخّص موسى موقفه فى عبارات حاسمة:
1- مصر فوق كل الأشخاص والسياسات. وما جرى فى يونيو 1967 أضر مصر كثيرًا، والمسئولية عنه تاريخية.
2- لم أهاجم عبدالناصر شخصيًا قط، وما زلت حريصًا على ذلك. لكنه، كغيره من الرؤساء، جزء من تاريخ مصر. ولا أحد فوق النقد، خصوصًا حين يتعلق الأمر بخطأ استراتيجى أفضى إلى هزيمة وطنية كبرى، فلا قداسة سياسية تعلو على قداسة الوطن وأرضه وشعبه.
3- لقد كنت عضوًا فى التنظيم الطليعى (الناصرى) من فرط حماسى وحبى لعبدالناصر، وتوقفت بقرار منى عن هذا الحماس وعن المشاركة فى أى نشاط منذ صباح الهزيمة المشؤوم.
4- ما زلت أطرب حين أستمع إلى تسجيلات خطب عبدالناصر، إذ يظل (عمرو موسى الشاب) حيًا فى وجدانى، لكن بنهاية الخطاب يعود العقل إلى موقعه، ومعه تساؤلات مشروعة بشأن ما حدث لمصر وأثره المدمّر على هذا الوطن العظيم.
5- عن وصف الديكتاتورية: لم يكن ذلك سبًّا ولا تجريحًا، بل توصيفًا تاريخيًا. وهو نفسه الوصف الذى أطلقته على الرئيس أنور السادات، ومن يملك رواية تُثبت أن عهد عبد الناصر كان زمنًا للرأى الآخر والانتخابات الحرة واحترام وتقديم أهل الخبرة لا أهل الثقة، وإعطاء الفرصة للقطاع الخاص الوطنى، فليقدّمها؛ فالتاريخ يُكتب بالوثيقة، لا بالهتاف.
6- الحقيقة الباقية: إن من يُحب عبد الناصر بحق لا يرفعه إلى مقام النبوة، ولا يُنزّهه عن الخطأ، بل يقرأ سيرته كاملة: إنجازات صنعت مجدًا، وإخفاقات كبّدت الوطن ثمنًا باهظًا. أما تحويل الزعيم إلى مقدّس، والتاريخ إلى نشيد محفوظ، فذلك يسىء إليه قبل أن يسىء إلى مصر.
*
فى الختام، أود التأكيد أننى هنا لست فى وارد الدفاع عن عمرو موسى؛ لأنه ليس متهمًا، بل عن حق مصر فى أن تُراجع تاريخها كما تفعل الأمم العظيمة: بجرأة ووعى وتجرد؛ فالتاريخ لا يُختزل فى هتاف، ولا يُقرأ بانتقاء، ولا يُحوَّل إلى ساحة لتوزيع صكوك الوطنية.
الوطن باقٍ، والزعماء عابرون، والقداسة السياسية الوحيدة التى لا تعلوها قداسة هى قداسة مصر، وأرضها، وشعبها. ومن يضع شخصًا فوقها إنما يسىء إليها وإليه معًا.