فى وقت كتابة هذه الكلمات، فى الثالث والعشرين من أغسطس، مرّ ستون عامًا على وفاة «النحاس باشا»، الاسم الرنّان الذى ملأ السماوات المصرية لربع قرن من الزمان. حتى بعد أن فرضت ثورة سنة 1952 سياجًا من الصمت حوله، استمر اسمه فى تخطّى العقود، ولم تحل دونه وفاته فى سنة 1965. مقياس لشعبية «النحاس باشا» هو الجمهور الذى هرع إلى جنازته فى وسط القاهرة معبّرًا عن حزنه على فراق زعيمه والقيم السياسية التى مثّلها.• • • من أسرة متوسطة ميسورة، وإن كانت غير ثرية، فى ريف الغربية، صعد به نبوغه إلى الطبقات العليا لممارسة القانون ثم السياسة، فى حقبة ثار فيها الشعب المصرى على الاحتلال البريطانى لبلاده. قادمًا من الحزب الوطنى انضم مصطفى النحاس إلى الوفد المصرى، فصحب سعد زغلول ورفاقه إلى المنفى فى مالطا ثم فى سيشل. وعندما مات سعد فى 1927، خلَفه فى زعامة الوفد. رأس النحاس الوزارة سبع مرات، ولكنه لم يحكم إلا زهاء سبع سنوات، فقد انتهت وزاراته بانقلابات دستورية قادها الملكان فؤاد ثم فاروق.• • • ذهبت آراء إلى أن شعبية مصطفى النحاس فاقت شعبية سعد زغلول نفسه. كان النحاس تجسيدًا للوفد وللوطنية الليبرالية، وشعبيته نتاجًا لمواقفه الصلبة فى السعى إلى الاستقلال والدفاع عن الدستور. وقع معاهدة سنة 1936 مع بريطانيا فأُلغِى تصريح 28 فبراير بتحفظاته الأربعة، وانضمت مصر كدولة مستقلة إلى عصبة الأمم. انتقادات مفهومة وُجّهت إلى المعاهدة، إلا أن التنويه واجب بأنها وضعت مصر فى موقف متقدّم على جميع البلدان المستعمَرة فى إفريقيا وآسيا، التى لم تكن أى منها قد حصلت على استقلالها فى ذلك الوقت. التمسّك بالإرادة الشعبية مصدرًا للحكم كلّف النحاس الانقلابات الدستورية على وزاراته، ولكنه لم ينكص عن هذا التمسك بتاتًا. يلفت النظر فى النحاس، وهو الرجل ذو الأصول الريفية المتديّن، تشبثه بالفصل بين الدين والدولة، وبعلمانية النظام السياسى. لقد خاف على الدين من السياسة مثلما خشى على السياسة من الدين، أو أكثر من خشيته عليها. عند اعتلاء فاروق العرش فى يوليو سنة 1938، رفض إضفاء أى صبغة دينية على حفل تنصيبه ملكًا. جمعه للمصريين حوله واستناده إليهم، مسلمين وأقباط، هو سرّ شعبيته الجارفة.• • • بالابتعاد زمنيًا عن ثورة 1919، وبعد ظهور الحركات شبه الفاشية من جانب، وتعدّد تنظيمات اليسار ونشاطها من جانب آخر، فضلاً عن الانشقاقات عن الحزب العتيد، ثمة تحليلات بأن شعبية الوفد تراجعت فى الأربعينيات من القرن العشرين، ومعها وزن النحاس فى النظام السياسى المصرى آنذاك. ومع ذلك، انظر إلى ما تحقق فى أطول فترة لحكم النحاس، من فبراير سنة 1942 إلى أكتوبر 1944. فى الحقل الاجتماعى، فى سنة 1942 صدر قانون النقابات العمالية، وفى سنة 1944 صدر كل من قانون عقد العمل الفردى وقانون التأمين ضد الحوادث، ووصل عدد النقابات العمالية إلى 210 نقابات تضم فوق المائة ألف عضو فى بلد كانت الأغلبية الساحقة للنشاط الاقتصادى فيه زراعية. وفى الحقل الاجتماعى نفسه، المرتبط بالتنمية، يُذكر تعيين النحاس فى وزارته الأخيرة فى 1950، وضد إرادة الملك، لطه حسين كوزير للمعارف، فجعل التعليم، كالماء والهواء، مجانيًا حتى المرحلة الثانوية.• • • الانفتاح على المسألة الاجتماعية صاحبه انفتاح فى العلاقات الدولية. حكومتا النحاس فى الأربعينيات وبداية الخمسينيات وضعتا اللبنات الأولى لسياسة مصر العربية، ولعدم انحيازها، وللتحرر من السيطرة الأجنبية. فى أغسطس سنة 1943 اعترفت حكومة النحاس بالاتحاد السوفييتى وتبادلت التمثيل الدبلوماسى معه. العالم العربى عرف مكانة النحاس؛ فعشية انتهاء الانتداب الفرنسى على بلدهم، تفاوض الزعماء اللبنانيون على توزيع المناصب السياسية بين طوائفهم، ثم أبلغوا مصطفى النحاس بما اتفقوا عليه ليبعثه إليهم فى رسالة كصيغة للحكم لها حجيتها، فكان الوفاق الوطنى اللبنانى لسنة 1943. وفى سنة 1944 دعت وزارة النحاس الدول العربية السبع المستقلة حينذاك إلى الاجتماع، فصدر عن ممثليها بروتوكول الإسكندرية فى أكتوبر سنة 1944، المرحلة الأولى فى إنشاء جامعة الدول العربية بعدها بخمسة أشهر.• • • رد فعل وزارة النحاس الأخيرة على الإعلان الثلاثى الصادر فى سنة 1950 عن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا هو خير تذكرة بموقفه من القضية الفلسطينية. أرادت الدول الثلاث أن تُثبّت الوضع القائم بعد اتفاقيات الهدنة لسنة 1949، وأن تحمى إسرائيل وتكفل لها مكاسبها، وتطلعت إلى قبول الدول العربية له ثم لانضمامها إليه فى مواجهة الاتحاد السوفيتى. حكومة النحاس رفضت الإعلان رفضًا قاطعًا، مصرّحةً بأنه ينتهك السيادة المصرية، وبأن حل قضية فلسطين لا يتأتى بقرارات تتخذها الدول الكبرى وحدها. التمسك بالحقوق الفلسطينية كان ثابتًا دومًا فى مصر. عدم الانحياز إلى المعسكر الغربى تأكد برفض وزارة النحاس الانضمام إليه فى الحرب الكورية فى نفس سنة 1950.• • • مكافحة السيطرة الأجنبية يعبر عنها دعوة النحاس للدكتور محمد مصدق، رئيس الوزراء الإيرانى، لزيارة مصر. كان مصدق قد أمّم فى إبريل 1951 نفط بلاده الذى كانت تنتجه وتستغله شركة النفط الإنجليزية الإيرانية، والدعوة وُجّهت له بعد إلغاء النحاس للمعاهدة المصرية البريطانية فى أكتوبر 1951، لتتم الزيارة فى شهر نوفمبر التالى له. تأميم النفط الإيرانى يذكّر بتأميم قناة السويس بعده بخمس سنوات. وكانت علاقة الود والاحترام وطيدة بين النحاس والزعيم الهندى جواهر لال نهرو، وهى امتداد لرفاقة الكفاح ضد الاستعمار بين الوفد المصرى والمؤتمر الهندى منذ العقد الثانى من القرن العشرين. عندما زار نهرو مصر فى سنة 1953، طلب زيارة النحاس، رغم أفول حضوره السياسى، وكان له ما طلب. نهرو هو واحد من نجوم المؤتمر الآسيوى الإفريقى فى باندونج، ومن مؤسسى حركة عدم الانحياز بعدها بسنوات.• • • الاحتفال بذكرى مصطفى النحاس، زعيم الأمة لعقود من تاريخها المعاصر، هو احتفال بسلامة حكم المصريين وتقديرهم لمن يكرّسون حياتهم من أجلهم، وهو تسليم بأنه ليس فى التاريخ انقطاع، بل مراحله تتوالى وتغذّى بعضها بعضًا.
مقالات اليوم خالد أبو بكر عن عمرو موسى وعبد الناصر.. نقاط على الحروف سامح فوزي الشرع والمسيحيون.. هل من جديد؟ عاطف معتمد رحلة إلى خليج العرب سيد محمود عقدة عبد الناصر يحيى عبد الله نُخَبٌ وظيفية صحافة عالمية تمويل الأبحاث مقابل حرية التعبير.. معركة هارفارد مع إدارة ترامب قضايا اقتصادية سوق الغاز الأوروبية ومحادثات إنهاء حرب أوكرانيا
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك