عام التوازنات الصعبة.. كيف تُدار السياسة المصرية فى ٢٠٢٦؟

السبت 27 ديسمبر 2025 - 6:15 م

ونحن على أعتاب عام جديد، يبدو الشأن السياسى المصرى الداخلى والخارجى على المحك، بين ضغوط داخلية متراكمة وتحديات إقليمية لا تهدأ! بين رغبة واضحة لدى الدولة فى تثبيت ما تعتبره استقرارًا بعد سنوات صعبة اقتصاديًا وسياسيًا عانى فيها المواطنون كثيرًا، وبين تحديات اقتصادية جمة دائمًا ما تؤثر على مزاج الجماهير. من المستبعد أن يكون عام ٢٠٢٦ فاصلًا أو مساحة لتغييرات جذرية، لكن فى الوقت نفسه من المستبعد أن يكون عامًا رتيبًا ومجرد استمرار لعام ٢٠٢٥ والأعوام التى سبقته! من المتوقع أن تكون ٢٠٢٦ لحظة إدارة دقيقة وحساسة لعدد كبير من التوازنات، حيث يصبح السؤال الأساسى: كيف يمكن للنظام السياسى المصرى أن يحافظ على قدرته على الحكم وحماية الأمن القومى، وفى الوقت نفسه التقليل من كلفة هذا الحكم اجتماعيًا وسياسيًا؟


• • •
البرلمان الجديد الذى يبدأ عمله فعليًا فى ٢٠٢٦ يمثل أحد مفاتيح هذه المعادلة. تركيبته، وطريقة تشكّله، وطبيعة الأدوار المتوقعة منه، كلها تشير إلى مؤسسة يُراد لها أن تكون مستقرة وقابلة للعمل، أكثر من كونها ساحة مواجهة سياسية مفتوحة. هذا لا يعنى أن البرلمان الجديد سيكون بلا سياسة، بل يعنى أن السياسة داخله ستُدار بأسلوب مختلف: نقاشات محسوبة، خلافات محددة السقف، وأولوية واضحة لتمرير التشريعات المرتبطة بالسياسات العامة، خاصة فى المجال الاقتصادى. البرلمان هنا ليس معنيًا بإعادة تعريف النظام السياسى، بقدر ما هو معنى بتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبتوفير غطاء تشريعى لمسار تعتبره السلطة التنفيذية ضروريًا.


لكن هذا الدور الوظيفى لا يلغى التحديات. فكلما ازدادت الضغوط المعيشية، وخصوصًا الاقتصادية منها، زادت توقعات الناس من البرلمان، حتى لو كانوا يدركون محدودية تأثيره. المواطن، فى النهاية، لا يميّز كثيرًا بين مسئولية الحكومة ومسئولية البرلمان، بل ينظر إلى الدولة كوحدة متماسكة. ومن هنا، فإن قدرة البرلمان على لعب دور الوسيط، وبشكل أكثر عملية من البرلمانات التى سبقته، تصبح حاسمة! لن يكون البرلمان معنيًا فقط بالخدمات، ولكن عليه أن يكون ذا قدرة على الاستماع والنقاش، ونقل الغضب من الشارع إلى الحكومة، لا مجرد امتصاصه، والضغط على الأخيرة لمواجهة هذه الضغوط بسياسات عملية محسوسة، حتى لو لم تكن النتائج فورية أو جذرية.
• • •
فى المقابل، تدخل السلطة التنفيذية عام ٢٠٢٦ وهى محمّلة بإرث ثقيل. السنوات السابقة كانت سنوات إدارة أزمة بامتياز: أزمة العملة وسعر الصرف والسوق السوداء، تضخم مرتفع، ضغوط مالية، وتراجع واضح فى مستوى معيشة قطاعات واسعة من المواطنين. فى هذا السياق، ركزت الحكومة على منع الأسوأ، وعلى الحفاظ على تماسك الدولة اقتصاديًا. لكن الآن لم يعد «منع الأسوأ» كافيًا للاستقرار السياسى والاقتصادى، بل يصبح المطلوب هو إقناع الناس بأن هذا الاستقرار له معنى فى حياتهم اليومية، لا عبر ما يردده الإعلام، ولكن من خلال تعامل المواطن اليومى مع سوق السلع والخدمات!


هنا تظهر الفجوة بين لغة الدولة ولغة المجتمع، بين منطق السلطة ومنطق الشارع! الدولة تتحدث عن أرقام، عن نمو، عن ضبط مالى، عن تراجع تدريجى فى التضخم، بل ومؤخرًا يُبشّر رئيس الوزراء المواطنين بانخفاض الدين، أخبار سعيدة بلا شك، لكن ما يراه المواطن فى النهاية مختلف! فالأسعار لا تعود إلى الوراء، والدخول شبه ثابتة أمام تكاليف متحركة، والخدمات الصحية والتعليمية لا تتحسن بالوتيرة نفسها التى تتحسن بها الأرقام والبيانات. حتى عندما تتراجع معدلات التضخم رسميًا، يبقى أثر الغلاء المتراكم حاضرًا، لأن ما ارتفع خلال سنوات لا ينخفض بسهولة، هذا إن انخفض من الأصل! هذه فجوة فى الإحساس، فى المنطق، فى لغة الحياة اليومية التى لا تعتبر كثيرًا بتحسن الأرقام! هذا، فى الواقع، هو التحدى الرئيسى الواقع على السلطة التنفيذية فى ٢٠٢٦.


لهذا ستجد السلطة التنفيذية نفسها فى العام الجديد وكأنها تسير على الحبال، أى الاستمرار فى مسار إصلاحى تعتبره حتميًا، مع ضرورة اتخاذ إجراءات تخفف من حدة الصدمات الاجتماعية والاقتصادية. كلام لا يبدو جديدًا، لكننى أدّعى أن هذه المرة سيكون الوضع أكثر حساسية من ذى قبل! زيادات محدودة فى الأجور، توسيع نسبى لشبكات الحماية، تدخلات جزئية فى بعض الأسواق، كلها أدوات لإدارة الغضب أكثر منها حلولًا شاملة. الهامش هنا ضيق، لأن الموارد محدودة، وأى توسع غير محسوب قد يعيد إنتاج الأزمة. لكن فى الوقت نفسه، فإن تجاهل البعد الاجتماعى يحمل مخاطر سياسية واضحة، وهذا سيناريو عرفناه فى مصر والمنطقة العربية بأسرها منذ ١٥ عامًا، ولا أعتقد أن أحدًا قادر على احتماله مستقبلًا!


العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية فى هذا السياق ستكون علاقة تنسيق أكثر منها علاقة صدام لن يكون لصالح أى منهما. الحكومة لا تحتاج إلى البرلمان فقط لتمرير القوانين، لكنها تحتاجه أيضًا كمنصة سياسية تشرح من خلالها قراراتها وتخفف من وقعها على المواطن. والبرلمان، بدوره، يحتاج أن يظهر بمظهر المؤسسة الفاعلة، لا مجرد حامل أختام. لذلك من المتوقع أن نشهد نقاشات تبدو حادة فى الشكل، لكنها تنتهى غالبًا بتوافق فى الجوهر. هذا النمط يسمح للطرفين بالحفاظ على صورتهما، ويجنب النظام السياسى كلفة صراع داخلى لا يملك ترفه!


• • •
اقتصاديًا، يمكن القول إن ٢٠٢٦ تمثل مرحلة انتقالية دقيقة. فبعد سنوات من إجراءات ركزت على ضبط السيولة وسوق العملة ورفع الاحتياطى، تبرز الحاجة إلى مرحلة يكون عنوانها الأساسى خلق فرص عمل حقيقية وتحسين نوعية الحياة. الحديث المتكرر عن دور القطاع الخاص يعكس إدراكًا بأن الدولة وحدها لا تستطيع تحمّل عبء النمو، وهذا صحيح، لكن ترجمة هذا الإدراك إلى واقع ليست مسألة فنية فقط، بل مسألة سياسية واجتماعية أيضًا، وعلى السلطة أن تراعى هذا دائمًا فى خطابها وسياستها! فتقليص مشاركة الدولة المباشرة فى النشاط الاقتصادى اليومى، مع توسيع دور القطاع الخاص كمحرك رئيسى للإنتاج والاستثمار، عادة ما يكون له آثار مؤلمة، نعرف هذا تمامًا، ولكن السؤال فى ٢٠٢٦: هل يستطيع المواطن تحمّل المزيد من هذا الألم؟ أو بعبارة أخرى، هل تستطيع الدولة تحمّل آثار أى انفجارٍ شعبى نتيجة لهذا الألم؟


هنا يعود السؤال المركزى: من يدفع الكلفة، ومتى تظهر النتائج؟ المواطن العادى لا يرفض الإصلاح من حيث المبدأ، وحينما تُحدّثه السلطة عن تضحيات من أجل الأجيال القادمة، فهو لا يعترض، لكنه فى الوقت نفسه يريد أفقًا واضحًا، وإحساسًا بأن هذه التضحيات ليست بلا نهاية! لذلك يصبح التواصل السياسى جزءًا من السياسة الاقتصادية نفسها. ليس المطلوب وعودًا كبيرة، بل شرح صريح وحدود واضحة لما يمكن تحقيقه وما لا يمكن، بلا وعود مفتوحة، أو طلب للصبر والتحمّل دون وضع نقطة زمنية دقيقة لانتهاء هذا الألم!


• • •
أما عن السياسة الخارجية، فمن المتوقع أن تستمر تعقيدات الوضع الإقليمى فى ٢٠٢٦! أحسنت مصر إدارة ملفات سياستها الخارجية خلال السنوات الماضية رغم كل التعقيدات، لكن فى النهاية هذه التعقيدات ستستمر فى العام الجديد. ملف غزة، وتداعيات الحرب وما بعدها، يظل حاضرًا بثقله الأمنى والسياسى. الأوضاع فى السودان وليبيا، وأمن البحر الأحمر، بالإضافة إلى ملف الأمن المائى المصرى، والعلاقات مع دول الخليج والاتحاد الأوروبى وكذلك الولايات المتحدة، كلها ملفات تمس الأمن القومى مباشرة. فى هذه الملفات، تميل السياسة المصرية إلى الحذر وإلى لعب دور الوسيط بكل الطرق الممكنة، بل وحتى الصبر على بعض الإساءات أو التهديدات بقدر الإمكان، مع تجنب الانخراط فى مغامرات مكلفة. هذا تصرف رشيد بلا شك، لكن هذا الحذر نفسه مرتبط بالوضع الداخلى. فكلما كانت الجبهة الداخلية أكثر تماسكًا، زاد هامش الحركة فى الخارج، والعكس صحيح! بعبارة أخرى، قدرة مصر على الاستمرار فى إدارة هذه التعقيدات والتحديات الإقليمية، أو حتى اتخاذ قرار بالتصعيد - يبدو حتميًا - فى بعض الملفات، يظل مرتبطًا بالدعم الشعبى، هكذا ببساطة!


• • •
وفى خلفية كل ذلك، يظل النقاش حول المستقبل السياسى الأبعد والأكثر حساسية حاضرًا، بما فى ذلك ما يُثار أحيانًا عن الترتيبات الدستورية ومدد الرئاسة. هذا ملف لم يُطرح رسميًا بعد، لكن إرهاصات النقاش عنه موجودة فى دوائر المحللين والمراقبين للوضع المصرى فى الداخل والخارج، وهو ملف مرتبط كذلك بسؤال الاستقرار والاستمرارية. القراءة الأكثر واقعية تشير إلى أن أى نقاش من هذا النوع لن يُفتح إلا فى بيئة هادئة نسبيًا، اقتصاديًا واجتماعيًا. بمعنى آخر، الاقتصاد هنا ليس مجرد ملف مستقل، بل شرط سياسى أساسى لأى ترتيبات مستقبلية فى هذا الشأن!


فى النهاية، يمكن القول إن عام ٢٠٢٦ يبدو عامًا لإدارة التوازنات أكثر منه عامًا للقرارات الكبرى. برلمان يقوم بدور تنظيمى، حكومة تحاول تحويل الاستقرار إلى شعور معاش ومحسوس لدى المواطنين، واقتصاد يسعى للخروج من منطق إدارة الأزمة إلى منطق الحياة اليومية. النجاح هنا لن يُقاس بخطابات مطولة أو قوانين جديدة، بل بقدرة النظام السياسى على تقليل الفجوة بين ما تقوله الدولة وما يعيشه المواطن، بين لغة الأرقام الرسمية والبيانات ولغة الشعب. هذه هى المعركة الحقيقية فى السياسة المصرية خلال ٢٠٢٦!


أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة