ذكريات من فوق الدولاب

الخميس 25 ديسمبر 2025 - 7:25 م

حتى ثمانينيات القرن الماضى كان "فوق الدولاب" فى بيوتنا يؤدى دورًا جليلًا للأسرة المصرية. كل الأشياء التى نريد الاحتفاظ بها أو التى لا نريد الاحتفاظ بها لكن لا يهون علينا التخلّص منها نطوّحها فوق الدولاب بمنتهى الأريحية. يتحوّل فوق الدولاب إلى خزانة كبيرة تتسع لبعض المقتنيات الثمينة وكذلك لخزعبلات لا معنى لها ولا مكان لها أيضًا. وهكذا تتجاور نسخ صفراء من صحيفة الأهرام التى تضم نعى الوالدين والأقارب والأصحاب العُزاز، مع أشعّات الظَهر والقولون وما يستجّد من أعضاء، مع صبغات الشعر ومستلزمات التحايل على آثار الزمن، مع لُعب خطرة نتاويها بعيدًا عن متناول الأحفاد حمايةً لهم كما فعل محمود البزّاوى عندما أخفى ريش البط داخل قُلّة قِناوى فى فيلم "همّام فى أمستردام"، مع برواز مكسور ومنبّه قديم ومضرب اسكواش منذ أن كان فى البيت مَن تسمح له صحته بممارسة الرياضة العنيفة. وبما أن مثل هذا الخليط من أشياء فيه ما هو منبعج وما هو مستوى فإن ترتيب فوق الدولاب كان يحتاج إلى مهارة ووقت، كما كان يحتاج أيضًا إلى بعضٍ من صبر أيوب.
• • •
فوق الدولاب إذن يمثل رديفًا للسندرة التى كانت موجودة فى البيوت القديمة لتبتلع كل ما نريد أن نخفيه عن عيوننا لحين إشعار آخر، مع فارق بسيط هو أن الطعام كان أكثر ما يتم الاحتفاظ به فى السندرة، فلقد كانت طراوة هذه الأيام تسمح بتخزين الطعام فى أماكن مغلقة دون أن يفسد... لم نكن نعى بعد أن التغيَرات المناخية ستفعل بنا الأفاعيل. وكم عشت سنين وأنا أشاهد عملية نقل خزين السمن البلدى إلى ذلك التجويف العميق فى أعلى جدار المطبخ الذى كان يُسمّى سندرة. يحّل موسم الشتاء، وتأتينا قوالب الزبد البلدى من قريتنا الحبيبة فى شمال الدلتا، فيشمّر والدى عن ساعديه ويتفرّغ لمدة يوم كامل لعملية تسييح الزبدة وتحويلها إلى سمن بلدى معتبر. لم أحب هذا اليوم أبدًا لأن الأعصاب فيه كانت دائمًا مشدودة لسبب غير معلن لكن الأرجح أن له علاقة بالحرص على ثروة الزبد الثمينة. كما لم أكن أحبه لأن رائحة السمن النفَاذة كانت تعبّق المكان وتَعلَق بالجدران لساعات طويلة. لكنى كنت معجبة بتقسيم الأدوار التلقائى بين والدّى، فكانت عملية تسييح الزبد مهمة حصرية لأبى، ولم أر أمى قط تمارسها معه أو بدلًا منه، حتى إذا ما ذهب أبى إلى خالقه تحوَلنا لاستخدام السمن البلدى الجاهز ثم اتجهنا إلى الزيت. وهكذا فمع أننا لم نكن بعيدين جدًا عن زمن أمينة وسى السيد، إلا أن هذا النمط من تسلّط الزوج على زوجته لم يعرفه بيتنا ولا بيوت الأقارب والجيران فى محيطنا على الأقل.
• • •
وفى مرحلة معينة من العمر كان فوق الدولاب يؤدى دورًا آخر لم يكن من الممكن للسندرة أن تنافسه فيه. كان يُستخدم كمسرح للمغامرات والشقاوة ولعب العيال. ومازلت أذكر واقعة طريفة من طفولتى المبكّرة فى شقة المنيل، عندما راح أخى الأوسط يغرينى بأن أتسلّق أرفف الملابس وأصعد إلى فوق الدولاب حيث توجد جنّة من الحلوى فى انتظارى كما قال. كان سقف الغرفة عاليًا وكان فوق الدولاب يتجاوز مستوى النظر، وهذا الوضع كان يسمح باختراع الحكاوى والأساطير. فى حقيقة الأمر لم أكن أثق كثيرًا فى إغراءات أخى الأوسط، فكثيرًا ما جرّتنى إغراءاته إلى مغامرات لا تُحمد عقباها. لكن فى عصر أحد أيام الإجازة الصيفية، دفعنى الملل والفضول والعفرتة إلى أن أفكر فى تجربة الأمر فعلًا.. ولم لا؟.
• • •
تسلّقت الأرفف بخفّة حركة طفلة فى السادسة من عمرها، على وعدٍ بأن أَقسِم مع أخي- قِسمة الحق- قطع الحلوى اللذيذة المجهولة فوق الدولاب. مع كل رّف أصعده كان يرتفع مستوى توقعاتى أكثر ويشتعل خيالى أكثر فأكثر. لكن من أول رفّ صعدته استبعدتُ أن أجد فوق الدولاب بعض قطع شيكولاتة جروبى اللذيذة، أولًا لأن أبى كان يكرمها ويحتفظ بها فى بونبونييرة كريستال أنيقة فى الصالون، وثانيًا لأنه كان هناك نوع من الارتباط الشرطى بين شيكولاتة جروبى والعيدين الصغير والكبير لزوم ضيافة الزوّار، ولم يكن هذا الوقت هو وقت أعياد. لكننى قلتُ فى نفسى حتى لو كانت الحلوى الموجودة فوق الدولاب أقل مستوى من شيكولاتة جروبى فإن هذا لا يعنى أنها لا تستحق المغامرة. أخيرًا وصلتُ إلى فوق الدولاب، وما أن اطمأن أخى إلى أننى أتممت المهمة بنجاح، حتى أغلق ضلفة الدولاب وتركنى بين السما والأرض على وزن اسم الفيلم الشهير لهند رستم. طبعًا لم تكن هناك حلوى ولا يحزنون بل مجموعة من الكراكيب المتّربة، والأسوأ أننى كنتُ مهددة بأن يصحو والداى من نوم القيلولة فيجدانى فى العلالى، ولم أكن أفضّل أن أترك لديهما هذا الانطباع، فشقاوتى كانت بوقار. توسَلت لأخى كى يفتح الدولاب ويطلق سراحى لكن لا حياة لمن تنادى، وهكذا لم يعد هناك بُد. توكلتُ على الله وقفزتُ قفزة فرافيرو فى الهواء، وتكفّلت صرختى المدوية بإيقاظ والداى فهرولا إلى حيث كنت مكوّمة على الأرض. آلمتنى قدماى بشدة وأصيبت قدمى اليمنى بشرخٍ متوسطٍ، لكن علقةً ساخنةً تلقاها أخى ساهمت فى تطييب خاطرى.
• • •
مرت الأيام والأعوام، وبدأ البلاكار الذى ليس له فوق يزاحم الدولاب التقليدى كما عرفناه. أفقدنا هذا التحوّل مساحة للتخزين والفضول والعفرتة ومصالحة الأشياء والكراكيب على بعضها البعض. وعلى المستوى الشخصى ما زلتُ أحب فوق الدولاب وأشعرُ أن له حميمية لأنه جزء من زمن حلو وعائلة دافئة وحكايات قديمة. ولذلك فعندما صعدَت معاونتى الطيبة على السلم المعدنى لتأتينى من فوق الدولاب بعلبة ڤيتامين سى لزوم تقوية المناعة مع دخول فصل الشتاء.. فإنها سحبَت مع العلبة من دون أن تدرى ذكريات كثيرة كثيرة.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة