x قد يعجبك أيضا

كيف تقاوم الولايات المتحدة تراجع هيمنتها العالمية؟

الجمعة 22 أغسطس 2025 - 7:45 م

مثلما شكّلت كارثة مفاعل تشيرنوبل النووى عام 1986 النهاية الرمزية لمكانة الاتحاد السوفييتى كقوّة عظمى تنافس على الهيمنة العالمية، شكّلت المشاهد الختامية للانسحاب الأمريكى من أفغانستان فى صيف 2021 اللحظة الرمزية لتحوّل الولايات المتحدة من القطب الأوحد المتفوّق عسكريًّا واقتصاديًّا وعلميًّا وتكنولوجيًّا والقادر على فرض إرادته المنفردة فى كل بقاع الأرض إلى قوّة عظمى متراجعة تتعرّض مصالحها لتهديدات متزايدة وتفكّر نخبها فى تغيير سياساتها وممارساتها.
كان الانسحاب الأمريكى من أفغانستان هو العنوان العريض لتلك اللحظة الرمزية التى تابعها العالم بأسره. غير أنّ منطقتنا، المعروفة بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا لدى البعض وكبلاد العرب وجيرانهم لدى البعض الآخر، خبرت تراجع قوّة الولايات المتحدة قبل صيف 2021 حين خرجت القوات الأمريكية من العراق تاركةً إيّاه مسرحًا مفتوحًا للنفوذ الإيرانى ولنشاط وكلاء إيران خلال العقد الماضى بكامله.
تهاوت الانفرادية الأمريكية حين لم تمنع الترتيبات والضمانات الأمنية التى هندستها الولايات المتحدة فى الخليج اعتداءات الحوثيين المدعومين إيرانيًّا على المنشآت النفطية السعودية عام 2019، ووقفت القوّة العظمى مكتوفة الأيدى، بينما كان حليفٌ لها فى منطقتنا يتعرّض لهجوم على مقوِّم وجوده الأهم وسِلعة استراتيجية عالمية يرتفع سعرها ليربك حسابات اقتصادات الحلفاء والأعداء.
وحين شرعت إرادات إقليمية، وليس فقط من أعداء الولايات المتحدة كإيران ووكلاء الجمهورية الإسلامية من كيانات دون الدولة (كحزب الله فى لبنان والحشد الشعبى فى العراق والحوثيين فى اليمن)، بل أيضًا من جانب حلفاء أمريكا فى الخليج وعموم المنطقة، فى تحدّى الاختيارات الاستراتيجية التى بنت عليها الولايات المتحدة سياساتها وممارساتها تجاه سوريا وليبيا واليمن (بلدان الحروب الأهلية)، وكذلك فيما يخصّ بلدانًا أخرى، صار واضحًا أنّ الهيمنة الأمريكية تتراجع.
• • •
وقبل نشوب حرب غزة 2023، عجزت الدبلوماسية الأمريكية عن توسيع نطاق الاتفاقيات الإبراهيمية الموقّعة بين إسرائيل وبعض البلدان العربية لتطبيع العلاقات الدبلوماسية وتنشيط التعاون الأمنى والاقتصادى والتجارى. وقّع الاتفاقياتِ من الجانب العربى دولةُ الإمارات ومملكةُ البحرين والمملكةُ المغربية، ولم تنضمّ السعودية على الرغم من إغراءاتٍ وضغوطٍ كثيرة من قبل واشنطن، وعارضت قطر والكويت وواصلت الجزائر رفضها.
ثم كان أن ثبتت أحداثُ الفترة الممتدّة بين اشتعال الحرب الروسية-الأوكرانية فى ربيع 2022 وصيف 2023 متبوعة بنشوب حرب غزة فى خريف 2023 الانطباعَ العالمى بتراجع الولايات المتحدة الأمريكية وتحولها التدريجى من قطب أوحد إلى قوّة عظمى تنافسها قوى أخرى على الهيمنة العسكرية والاقتصادية والتجارية والدبلوماسية والعلمية والتكنولوجية.
تحدّت روسيا الإرادة الأمريكية بالغزو العسكرى لأوكرانيا، وصمدت فى مواجهة العقوبات الأمريكية والأوروبية الكاسحة، وتواصل إلى يومنا هذا رفضَ الانسحاب من الأراضى الأوكرانية المحتلّة أو البحثَ عن سبل لوقف إطلاق النار وتهدئةَ جبهات القتال المشتعلة بفعل إمدادات السلاح الغربية للجيش الأوكرانى.
تحدّت الصينُ الإرادةَ الأمريكية فى منطقتها الحيوية فى المحيطين الهادئ والهندى، مغيرة من جغرافيتها (ببناء الجزر الاصطناعية) وتوازناتها العسكرية (بنشر قوات وسلاح فى مواجهة القواعد العسكرية الأمريكية) ومن حساباتها السياسية (بحصار تايوان وتهديد حكومتها على نحو مباشر) ومن تحالفاتها الاقتصادية والتجارية والمالية (بمدّ شبكات العلاقات وتعميقها مع حلفاء أمريكا ومع البعيدين عنها). تحدّت الصينُ الإرادةَ الأمريكية بالامتناع عن فرض عقوبات على روسيا ورفض إدانة غزوها فى المجالس الأممية، بل وبمساعدة الحكومة الروسية اقتصاديًّا وماليًّا وعسكريًّا وتكنولوجيًّا وبالبحث عن مخرج لها من الحرب مع أوكرانيا عبر جهود الوساطة والتفاوض. تُقارِعُ الصينُ النشاطَ الدبلوماسيَّ لواشنطن، التى تعمل منذ اشتعال الحرب الروسية - الأوكرانية على تقوية تحالفاتها مع الأوروبيين ومع الدول المؤثّرة فى المحيطين الهادئ والهندى كاليابان وأستراليا ونيوزيلندا ومع دول شرق أوسطية وإفريقية مهمة، بتنشيط المنظمات الإقليمية التى كان لبكين دور كبير فى تشكيلها كمنظمة «البريكس» (تجمّع الصين والهند وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا) ومنظمة شنغهاى للتعاون ومبادرات الحزام والطريق من جهة وطريق الحرير من جهة أخرى، وتُقارِعه أيضًا بالترويج لخطاب دورِ الصين المحبّةِ للسلام والصاعدةِ كقوّة خيّرة بديلة للولايات المتحدة وصاحبةِ النموذج التنموى المتكامل القادر على منافسة النموذج الأمريكى على كل المستويات.
• • •
تراجعُ الولايات المتحدة، ومحدوديةُ فاعلية دبلوماسيتها فى الشرق الأوسط، فى مشهد بالغ الوضوح إذ تعجز عن إيقاف آلة الحرب الإسرائيلية فى غزة، لا يعنى استسلامَ واشنطن لتغيّر مكانتها.
تقاوم واشنطن بحصار روسيا والرغبةِ فى إنزال هزيمة عسكرية بجيشها فى أوكرانيا، وتقاوم أيضًا بحرب غير معلنة على الصين ذاتِ جوانبَ تكنولوجية وعسكرية واقتصادية وتجارية ودبلوماسية، وتقاوم كذلك برصّ صفوف حلفائها من وراء اختياراتها وفرضِ معادلات صفرية وسياسات حدّية عليهم (كما فى أوروبا التى لم تبحث دولُها عن حلول سلمية للحرب بين روسيا وأوكرانيا، وكالهند التى تُخَيَّرُ بين الصين وبين المعسكر الغربى، وكاليابان التى تدفع باتجاه تسليح متطوّر وانتشار عسكرى أوسع فى المحيط الهادئ).
تفعل الولايات المتحدة الأمر ذاته فى منطقتنا، حيث تحاصر الدورَ الروسى فى سوريا وليبيا والسودان، وترفض التوغّل الدبلوماسى الصينى بعد الوساطة بين السعودية وإيران، وتُخيِّرُ الحلفاء بصيغة المعادلة الصفرية بين تطوير علاقات التعاون والأمن معها ومع الغرب ووكلاءِ الغرب الإقليميين (إسرائيل) وبين الانفتاح على الصين والعروضِ الصينيةِ المتكاثرة، إنْ اقتصاديًّا وتجاريًّا أو أمنيًّا وعسكريًّا أو دبلوماسيًّا وتفاوضيًّا، لحلّ الصراعات والنزاعات.
ولأنّ الولايات المتحدة تقاوم تراجعها بشدّة، تظلّ سياساتها وممارساتها مصدرَ خطرٍ وتهديدٍ إذا تجاهلها حلفاؤها ومصدرَ مواجهات محتملة مع الأعداء. وإذا كانت روسيا تقدّم اليوم نموذجَ القوّة العالمية المعادية للولايات المتحدة وتقدّمه إيران فى منطقتنا، فإنّ الصين عالميًّا تقدّم نموذجًا آخر يتحدّى القوّة الأمريكية ويُنافِسها على أصعدةٍ مختلفة دون أن يتوقّف عن التعاون معها والعمل على الابتعاد عن المعادلات الصفرية، على النحو الذى يُدلِّل عليه مَزْج بكين بين تأييد روسيا فى حربها على أوكرانيا والوساطة، لإنهاء الحرب وبين مواجهة واشنطن فى تايوان والتعاون الأمنى معها فى المحيطين الهادئ والهندى وبين التنافسِ التكنولوجى والتجارى معها والتعاونِ العلمى.
وفى منطقتنا، قدّمت سياسات مصر والأردن والعراق والجزائر والمغرب ودول الخليج وتركيا الخارجية نماذج للمزج بين التعاون مع واشنطن وبين رفضِ بعض سياساتها، وبين الانفتاح على الصين والإبقاء على الشراكات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة مع التحفّظ على الدعم الأمريكى الأحادى لإسرائيل؛ نماذجَ للمزج بين رفضِ إدانة روسيا ورفضِ أن يختار العرب والأتراك بين واشنطن وبكين.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة