هل يمكن أن يتعرض الإنسان للموت بفعل الشمس الحارقة فى قيظ شهر أغسطس وهو لا يعمل فى مكان مكشوف ولا ضلّ سبيله فى الصحراء؟فى مثل هذه الأيام منذ سنوات كنت فى زيارة للكويت، وقد عنّ لى أن أنزل إلى جمعية الشرق التى تقع على مقربة من الفندق الذى أقمت به لشراء بعض الأشياء. الجمعية هى السوبر ماركت التعاونى الموجود بالحى، والمسافة إليها تحتاج إلى أقل من عشر دقائق، لكن مَن المجنون الذى يمشى فى هذا الجو؟ من خارج الفندق أخذت سيارة أجرة أوصلتنى سريعًا. فرغت من شراء ما أردت وقررت ألا أتلكأ حتى ألحق موعدى مع شخصية هامة على الغداء. حين خرجت من الباب لفحنى الصهد فخطوت سريعا إلى الشارع ألتمس سيارة أجرة. مرت دقيقتان دون أن تظهر أى سيارة فأحسست أن نافوخى يغلى من الحرارة. ارتددت صوب الجمعية لأحتمى داخلها من النار. عاودت الخروج مرة أخرى بعد أن انتعشت قليلا من الهواء المكيف. يا إلهى.. أين سيارات التاكسى التى تقف عادة خارج السوبر ماركت؟. طال الوقت وبدأت أشعر بصداع وكنت أخشى أن أصعد السلالم للخلف مرة أخرى للاحتماء من الشمس فيمر التاكسى فى نفس اللحظة فقررت أن أقف حتى أظفر بواحد وأعود سالما. بعد فترة اكتشفت أن هذا المدخل ليس هو الباب الرئيسى لجمعية الشرق، لكنه باب فرعى يطل على مكان غير مأهول. عند هذا الحد قررت أن أستعين بصديق.. أى صديق ينجدنى ويأتى ليقلنى. دخلت إلى الجمعية مرة أخرى وتنفست من جديد ثم مددت يدى لأخرج المحمول لكنى أخرجتها فارغة.. يا الله.. لقد نسيت التليفون فى الفندق.. أى حظ هذا؟ عبرت الممرات ووصلت إلى الباب الآخر المملوء بالحياة حيث المطاعم والساحة الكبيرة التى تعج بالسيارات. لمحت تاكسيا كان قد أنزل زبونا ويتأهب للانطلاق فعدوت نحوه صارخا، غير أنه لم يسمعنى ومضى أمام عينى وتركنى أمضغ غيظى. الوقوف على السلم يكفل لى الحماية من الشمس لكنه لن يسمح باصطياد سيارة أجرة، لكن على الرصيف المقابل بعد ساحة السيارات يوجد الشارع الذى تمضى به السيارات.. انتظرت قليلا دون طائل فلم أر بدا من النزول والذهاب إلى هناك حيث رفعت يدى عاليا فى انتظار أن يتعطف أى إنسان ويرق لحالى. يبدو أن هذا اليوم ليس من أيام سعدى فكل التاكسيات التى تمر أمامى مشغولة. لو أن هذا حدث فى القاهرة لتوقف التاكسى حتى لو كان به أربعة ركاب! لا أستطيع أن أتحمل الوقوف أكثر من هذا.. إن ضربة الشمس تقترب وبعد قليل قد أفقد الوعى. جريت بأقصى سرعة نحو باب الجمعية لأستريح وأفكر ثم أخرجت زجاجة مياه غمرت بها رأسى. الموقف عبثى بامتياز. من الممكن أن أهلك وأفقد حياتى لو ظللت على الرصيف فى انتظار التاكسى. لم يكن اختراع الأوبر قد ظهر وقتها. أيمكن أن يحدث هذا وأنا فى قلب واحدة من المدن الحديثة ولست فى صحراء الربع الخالى؟ البديل هو أن أنتظر فى الداخل حتى تغرب الشمس ويصبح الخروج ممكنا، لكن كيف هذا وأنا ملتزم بموعد هام وضرورى؟. دخلت فى قلب الجمعية وسألت البائعين إذا كان فى إمكان أحدهم أن يطلب لى «تاكسى» وله الأجر والثواب. يبدو أن وجهى الأحمر ولهفتى قد جعلت أحدهم يخرج هاتفه ويجرى المكالمة المأمولة ثم يبشرنى بأن السيارة فى الطريق. انطلقت نحو الباب ووقفت على السلم داعيا ألا أكون فى طريقى للمرض حيث بدأت أشعر بطنين فى أذنى وصداع يعصف برأسى مع فقدان للتوازن. طال الانتظار ولم يحضر التاكسى. وضعت شنطة المشتريات وجلست على الأرض لا أدرى ماذا أفعل، وكنت أنظر للبشر الذين يملأون المكان متسائلًا: أليس فى وسع أحد من هؤلاء أن يساعدنى.. إننى على استعداد أن أدفع أى مبلغ مقابل أن أعود للفندق. لمحت شابا له ملامح الهنود توجهت نحوه وسألته أن يوصلنى بسيارته بأى مقابل لكنه رفض. نظرت للباقين فوجدت عائلات تتوجه كل منها نحو سيارتها.. لا أستطيع بطبيعة الحال أن أطلب توصيلة من رب أسرة يقل عائلته. الوقت يمضى وحالتى تزداد سوءا. قمت بغمر رأسى بالمياه مثلما كنت أفعل أثناء مناسك الحج وعبرت إلى الرصيف أتطلع إلى السيارات المسرعة. كان التعب قد نال منى وزاده توتر أعصابى مع اقتراب الموعد. دخلت إلى أحد المطاعم فخفّت إلىّ النادلة الآسيوية لتصطحبنى إلى إحدى الموائد. قلت لها: إننى لست جائعا لكنى أحتاج إلى تاكسى وسأدفع لك ثمنا أغلى وجبة عندكم لو ساعدتنى. قالت: كم ستدفع؟ فوجئت بجرأتها ومع ذلك قلت: سأمنحك عشرة دنانير إذا أحضرت لى سيارة أجرة. بدا على ملامحها السرور وطلبت منى أن أنتظر. فى هذه اللحظة اقترب منى شاب كويتى كان يتناول طعامه وحده ويبدو أنه سمع المحادثة. تساءل الشاب عن الحكاية فأخبرته بالموقف العجيب الذى أواجهه. ضحك ودعانى إلى تناول الطعام وقال إنه سيوصلنى. لم أكن فى حالة تسمح بتلبية دعوته فشكرته وطلبت التوصيلة فقط. قام الشاب الكريم بالخروج معى وركبت سيارته وبعد أقل من دقيقة كنت أمام الفندق.عندما أتذكر الآن هذا اليوم لا أشعر بالامتعاض أو الغضب، إذ إننى قد كسبت صديقا ما زال الود بينى وبينه متصلا، وهو المكسب الذى حققته من الخروج تحت الشمس الحارقة فى ذلك اليوم القائظ.
مقالات اليوم عماد الدين حسين قانون الغاب الأمريكي الإسرائيلي ناجح إبراهيم نتنياهو.. وإسرائيل الكبرى عمرو حمزاوي كيف تقاوم الولايات المتحدة تراجع هيمنتها العالمية؟ ليلى إبراهيم شلبي العلم يسألك: هل تصل رحمك؟ محمد زهران التكنولوجيا.. رفاهية للبشر وخطر جسيم محمود قاسم نص ساعة جواز بسمة عبد العزيز المَجرَى صحافة عربية لغة لا تساوى وزنها علفًا العالم يفكر مستقبل الدور الفرنسي في إفريقيا بين الشراكة والقطيعة
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك