الوجدان الدولى الجديد.. تضاريسه ومآلاته

الخميس 10 يوليه 2025 - 8:50 م

مع تعاظم وضوح حدة التناقضات فى حركيات الشأن العام الدولى، خاصة فيما يتعلق بمعايير حقوق الإنسان، وبإنفاذية سيادة القانون، يتصاعد الحس باللايقينية عند الجميع، أفرادا، وكيانات، وشعوبا. ولأن تفاقمات اللايقينية قد تخطت عتبات الاستحمال، فقد انخفض بشدة الشعور بالأمان فى معظم أرجاء العالم.
هذه الحالة «المرضية» لم تنشأ فجأة من الصفر، بل أخذت تنمو، فى تطور بسيط، متواصل، منذ بزوغ ما عرف بالعولمة، أواخر الثمانينيات. أما أحداث غزة، فلم تكن إلا كواشف تُعَرّى وتفضح سوءات ما دُرج على تسميته بالنظام الدولى.
من أحداث غزة إلى تغير الوجدانات
عمليا، أدت وضعية انكشاف عُهر النظام الدولى، من ماكروسكوب أحداث غزة، إلى تغييرات فى مكونات «القوى الباطنية» للإنسان، بما يُعتَمَل فيها ويصدر عنها من عواطف وخيالات، وبما يكمن فيها من ضمير، وما يطرأ عليها من توجهات. الانتشار لهكذا حالة يعنى تغيرا فى «الوجدان».
تغير «الوجدان» عند شخص يؤدى إلى تحولات فى علاقاته وفاعلياته ومساراته. أما عندما ينتشر التغير الوجدانى عالميا فالتحولات، من حيث خصائصها وتبعاتها، تتخطى ما يمكن أن يكون فى الحسبان. عندها تمثل التحولات الوجدانية ملمحا للمتبقيات، والتى كان قد جرى استشرافها فى طرح سابق («غزة.. ما بين اليوم التالى والمتبقيات» - الشروق- 15 أغسطس 2024)، والذى جاء فيه: «ستسكن المتبقيات الناجمة عن أحداث غزة، ليس فقط فى النفوس والعقول، وإنما أيضا فى الزمان، حيث تمتد تأثيراتها وانعكاساتها بشكل تكاد لا تكون له حدود.. ذلك يعنى تخطى المحتملات والممكنات الناجمة عن أحداث غزة لمنطق اليوم التالى، بل ووصولها إلى مسارات من نوع ما ينبغى أن يكون».
عن تضاريس ومآلات هذا الوجدان العالمى البازغ، يجتهد الطرح الحالى فى الإشارة إلى العوامل المُنشئة للتحولات فى الوجدان الدولى، وما يتولد عنها من ملامح، فضلا عن العدائيات المجابهة لهكذا تحولات.
العوامل المُنشئة للتحولات فى الوجدان الدولى
من أهم هذه العوامل تجدر الإشارة إلى:
1) تعطل فاعليات النظام الدولى، وعلى رأسه الأمم المتحدة وكياناتها، تجاه الإدانات القانونية للإبادات الجماعية والتطهيرات العرقية لسكان غزة، وتجاه المطالبات العالمية بتحرر فلسطين.
2) انعدام إمكانية استيعاب الكيان الإسرائيلى لأية حكمة (أو نصيحة) تبزغ من داخله بشأن المخاطر الوجودية القائمة عليه هو ذاته من جرّاء اغتصابه للحق الفلسطينى. فى هذا الشأن يُذكر أن رئيسين لمجلس الوزراء الإسرائيلى، إسحق رابين (1922- 1995) وأرئيل شارون (1928 - 2014)، قد دَعِيا أثناء وجودهما فى السلطة (وبرغم سابق ممارساتهما العنصرية ضد الفلسطينيين) إلى الاعتراف بالحق الفلسطينى والترتيب لسلام دائم مع الفلسطينيين. المفاجأة أن كليهما لقى حتفه فور إعلانه عن توجهه، الأول (رابين) اغتيالا بالرصاص، والثانى (شارون) بغيبوبة أنهت حياته. هكذا سياق يكشف السبب فى أن أكثر من جاء بعدهما تطرفا (نتنياهو) قد قاربت فترات رئاسته لمجلس الوزراء عقدين.
3) تشابه كبير فى وتيرة الملاحقات القضائية المتعلقة بالفساد لكل من الرئيس الأمريكى (ترامب) ورئيس الوزراء الإسرائيلى (نتنياهو)، الأمر الذى قد تخطى مؤخرا المعايير الأخلاقية، بتوجيه ترامب رسالة إلى الإسرائيليين مطالبا فيها بإلغاء جلسات محاكمة نتنياهو بخصوص الفساد.
4) تصاعد حالة الشواش فى ممارسات الإدارة الأمريكية بقيادة ترامب، بما يتضمنه ذلك من مواجهات أمنية وإدارية مع أصحاب الرؤى الأخرى، من الطلاب والباحثين، وقيادات الجامعات. ذلك إضافة إلى المشاغبات بخصوص التعريفات الجمركية مع عديد من البلدان، فضلا عن المواجهات مع أوضاع الهجرة والمهاجرين.
الملامح المجسدة للتحولات
ملامح متنوعة عديدة، نشير هنا إلى بعضها.
1) تصاعد ثورة شباب الجامعات الأمريكية، شجبا لإسرائيل، ودعما للحق الفلسطينى، ورفضا لكافة مساهمات جامعاتهم وحكومتهم فى دعم إسرائيل.
2) تواصل إعلان كبار المثقفين فى العالم، من مفكرين وأكاديميين وفنانين.. إلخ، عن إداناتهم للجرائم الإسرائيلية، وتأييدهم للحق الفلسطينى.
3) تنصل عديد من مشاهير وجماهير اليهود من تمثيل الصهيونية لهم، واستنكارهم للممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.
4) استصدار كيانات قانونية دولية (محكمة العدل والمحكمة الجنائية) لقرارات تتهم الكيان الإسرائيلى بجرائم حرب وتنص على محاكمات لقياداته.
5) تزايد الحس بالفجوات، شمالا وجنوبا، بين مواقف الشعوب من جانب، ومواقف الحكومات من جانب آخر.
التحولات المنتظرة
تمثل هذه التحولات التشوقات التى تحس معظم شعوب العالم بالحاجة إليها، أو التى فى طول غيابها يهيمن الانكسار والتحجيم على قدرات وطموحات الشعوب. من أبرز التحولات التى يوجد انتظار لها يمكن الإشارة إلى:
• انعدام ما يعرف بجريمة العداء للسامية، خاصة وقد تزايد إدراك كبار الأكاديميين والكتاب والفنانين من اليهود، بأن القصد من هكذا اتهام هو حماية الصهاينة لأنفسهم بشأن ممارساتهم العنصرية.
• التمكين للفعل التواصلى بين الناس العاديين وبعضهم، وبين المفكرين وبعضهم، الأمر الذى تجتهد القوى العالمية المهيمنة (النيوليبرالية والصهيونية وأتباعهم فى بلدان الجنوب) فى تحجيمه ومنعه.
• المعالجة الذاتية لأحوال الشأن العام فى بلدان الجنوب، خاصة عربيا وشرق أوسطيا، الأمر الذى يتطلب التركيز فى تصحيح الممارسات السياسية، وحركيات المجتمع المدنى، والتمسك بسيادة القانون.
• تحول مسار الشارع السياسى الأمريكى إلى فاعليات أكثر تنوعا وتأثيرا من الهيمنة المزمنة لحزبين كبيرين. هكذا تحول يعنى ثورة على تقليديات الشارع السياسى الأمريكى، مما ستكون له انعكاساته السياسية عالميا. إنه طرح كان قد جرت الإشارة إليه فى فبراير 2013 («مستقبل جديد للثورات– ثورة المفكرين الحوار المتمدن – العدد 3991)، ثم أعقبه طرح آخر عام 2016 («الأمريكيون يقتربون من المسار المستقبلى للثورات» – الحوار المتمدن – العدد 5340 – 11 نوفمبر)، وبعده صدر للسياسى الأمريكى المخضرم برنى ساندرز كتابين (بالإنجليزية) فى نفس الاتجاه (أولهما «مستقبل للايمان بثورتنا» 15 نوفمبر 2016، والآخر «الدليل للثورة السياسية» 29 أغسطس 2017).
ظهران ممدانى - جنين الوجدان الأمريكى الجديد
فى ظل استشراف حدوث ثورة على تقليديات الشارع السياسى الأمريكى، وبالتزامن مع التحولات والمتولدة بفعل أحداث غزة، يأتى فوز الشاب ظهران ممدانى بتمثيل الحزب الديمقراطى فى انتخابات عمدة نيويورك. إنه حدث يبزغ فى لحظة تاريخية خاصة، تتوافق (أو تلتقى) فيها الخصائص غير التقليدية لهذا المرشح مع الوجدانيات الجديدة لعموم الناس، الأمر الذى لم يكن ليحدث لو لم تكن متبقيات غزة قد بدأت فعلها. ذلك بمعنى أن خصائص ممدانى، كمسلم، وكمهاجر حديث، وكاشتراكى النزعة، وكمناهض لهيمنة رأس المال وللإبادات الجماعية فى غزة، لم تكن مطلقا لتَلقى، فيما قبل متبقيات غزة، تأييدا انتخابيا فى نيويورك، والتى عرفت بيهودية غالبة، وبهيمنة أصحاب المليارات.
العدائيات المجابهة للوجدان العالمى الجديد
إذا كان ما يمكن اعتباره «وجدانا عالميا جديدا» قد بزغ وتكوّن ونضج وما زال يتنامى نضجا، انعكاسا لما يجرى فى العالم من إلغاء (أو تحجيم) للقانون الدولى وللأنظمة الخاصة بتسييره، فإن العدائيات المواجهة لهذا الوجدان تأتى من المحدثين للخلل فى النظام الدولى، والذين يتمثلون فى:
1) النيوليبرالية، بممارساتها السياسية الرأسمالية الشرسة، وبدعمها النوعى للتطورات التكنولوجية الخاصة بالتسيد على الآخر، وليس بالفائدة لعموم البشر.
2) الصهيونية العالمية بما تمارسه من عنصرية صريحة، والتفافات (تحكمية) حول أنظمة الحكم، خاصة فى الغرب.
3) قوى التطرف فى أى مكان، والتى تلقى جميعها، أو معظمها، الدعم من النيوليبرالية والصهيونية العالمية.
4) القيادات السياسية المحلية، شمالا وجنوبا، ممن تتغلب على ممارساتها الاتباعية للنيوليبرالية و/ أو للصهيونية، والذين هم ممن يتشبثون باستمرار بهيمنتهم على السلطة.
5) عناصر النخب (كالمفكرين والأكاديميين) ممن يقومون بالتخديم على النيوليبرالية والصهيونية وقوى التطرف.
هذا، ويجدر الانتباه إلى أن أصحاب العدائيات المجابهة للوجدان العالمى الجديد هم - فى نفس الوقت - ممارسون للمؤامراتية، ومستخدمون لها، ضد الآخر، كيانات وشعوبا (مكانة المؤامراتية من المستقبليات -دورية أدب ونقد- العدد 426- 2024- ص 23- 46).
وبعد، إذا كانت العولمة، وبرغم كونها نتاج لتضافرية بنائية منظومية من دول كبرى قد وصلت بالنظام الدولى إلى ما يحفل به حاليا من عورات، وغبائيات، فماذا يمكن أن تكون عليه مخرجات الوجدان الدولى الجديد؟
هنا يمكن القول بأنه بالرغم من أن هذا الوجدان الجديد ليس إلا سياقا عالميا، إلا أنه قد يكون بمثابة الجسر المناسب للعبور إلى نظام دولى أكثر نضجا وعدلا، مسألة تحتاج إلى تناول قائم بذاته.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة