بعض الناس تظن أن التاريخ فعل ماض وانتهى، وعلى أفضل تقدير يعتبرون التاريخ عنصرا فى الخلفية، قد نحتاج إليه فى لحظة ما إذا اقتضى الأمر الواقع. فريق آخر يتعامل مع الدين وكأنه تاريخ، ويختزلون الوحى فى لحظة نزوله، وكأنه أصبح تاريخا؛ ويضعون كل تركيزهم فى الأمر الواقع، ثم تباغتهم الأحداث وتأخذهم لهفة المتابعة حتى يجدوا أنفسهم يتكلمون فى التاريخ وكأنه أمر حاضر، ويستحضرون الدين، ومعانيه المتجددة، ومع ذلك لا ينتبهون إلى أن الواقع ما هو إلا وجه من أوجه الحقيقة وليس الحقيقة كلها. والحرب الإسرائيلية الإيرانية الأخيرة هى أفضل تعبير عن ذلك.من حسن الحظ أن الحرب جرت بين نظامين دينيين مختلفين إلى أبعد الحدود. وبالرغم من أن البعض يظن أن دولة إسرائيل هى دولة علمانية ينفصل فيها الدين عن السياسة، فإن الواقع يخالفهم. فحكومة نتنياهو لم تترك فرصة إلا وأكدت على يهودية الدولة ودينية المواجهات، بدأ من تسمية العملية بـ«الأسد الصاعد»، التى كتب نتنياهو اسمها على ورقة ووضعها فى حائط البراق بالقدس قبل يوم من بداية الضربات على إيران يوم 13 يونيو. واستوحى الاسم من نص تلمودى فى الإصحاح 23:24، جاء فيه «هُوَذَا شَعْبٌ يَقُومُ كَلَبْوَةٍ، وَيَرْتَفِعُ كَأَسَدٍ. لاَ يَنَامُ حَتَّى يَأْكُلَ فَرِيسَةً وَيَشْرَبَ دَمَ قَتْلَى». وبدوره، تلبس الرئيس الأمريكى نفس الحالة الدينية وهو يتحدث عن استهداف بلاده لإيران يوم 22 يونيو، وقال فى نص خطابه «نحن نحبك يا الله»، ثم دعاه أن يحمى الجيش الأمريكى ويبارك الشرق الأوسط! أما إيران التى كانت فى مواجهة الشيطان الأصغر والأكبر معا، خلا خطابها من الرمزية الدينية المتوقعة. فجاء اسم العملية «الوعد الصادق-3» ليؤكد على الوفاء بالوعد والانتقام من إسرائيل بسبب تعديها على إيران. واستحضر المرشد الأعلى عناصر الوطنية والتاريخ فى خطاب النصر يوم 26 يونيو بعد توقف الضربات، حيث أثنى على الشعب الإيرانى الذى «أظهر شخصيته الأصيلة، وسيبقى منتصرا وعزيزا، ودولتنا قوية، وحضارتنا موغلة فى التاريخ». تحليل هذا الخطاب يؤكد على مسألة لا تقل قدسية فى الفكر الإيرانى وهى «العنصر الفارسى».• • •المشكلة فى تصور النظام الإسرائيلى هى فكرة إسرائيل الكبرى، التى هى فكرة توسعية تعكس فكرا استعماريا، مغلفا بما يفهمون من نصوص واردة فى الكتاب المقدس وترجمة بالقدر الذى يتيح ترسيخ الاحتلال. ما يقوله نصّ سفر التكوين، كما فى الطبعة العربية وبقية اللغات: 1: 15:7هو التالى: «فى ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقا قائلا: لنسلك أعطى هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات». وتم انتقاد هذه الترجمة من لغة التوراة الأصلية إلى اللغة العربية والإنجليزية، حيث يستخدم التعبير الأصلى كلمات أخرى مثل «من نهر مصريم» وليس مصر، كما يستخدم «حتى النهر الكبير» ولا يستخدم «الفرات»، والتى جاءت كإضافة متأخرة لم تكن موجودة فى النص القديم من التوراة. وكما ترون، بالرغم من غياب الدقة فى الترجمة، إلا أن المشروع الصهيونى اعتمد على فهم معين وروج له. وبالابتعاد عن التغيرات التى دخلت على النصوص عبر العصور، وتأويلها لاسيما التى تسمى أماكن لم تكن موجودة فى عصر نزول التوراة، مثل اسم نهر الفرات الذى كان اسمه وقتها «بورانو». نتوقف عند مسألة أهم وهى الوعد الذى منحته الآيات لذرية إبراهيم، وهنا نجد افتتاء على نبى الله إبراهيم (عليه السلام)، من حيث اقتصار نسله على أبناء سيدنا إسحاق عليه السلام. هذا إذا كانت ذرية الأنبياء هم أبناؤهم لأصلابهم، وإنما ما نفهمه طبقا للعقيدة الإسلامية، فإن ذرية الأنبياء هم من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ذرية بعضها من بعض. ولكن بالعودة للفكر الإسرائيلى، نتيقن أن كل مرحلة سلام هى بالضرورة مؤقتة، حتى تسمح الإمكانيات بتحقيق ما تقوله النصوص الدينية. وهكذا يحمل المؤمنين بهذه الأفكار، تلك العقيدة عبر الزمن حتى يستطيعوا تغيير الأمر الواقع. لقد رأينا جميعا كيف غيروا الواقع عام 1948.• • •الآن، بعد المواجهات بين إسرائيل وإيران، يظن البعض أن مسألة إسرائيل الكبرى واقعة لا محالة، وكأن إسرائيل نجحت فى تحرير رهائنها، وتهجير أهل غزة والضفة وعرب-48، واستولت على سلاح حماس وحزب الله، وأسكتت صواريخ الحوثيين وإعادة حرية الملاحة فى البحر الأحمر لسفنها والسفن المتعاملة معها، وأخضعت إيران، ومن ثم هيمنت على المنطقة ما بعد الفرات حتى طهران شرقا، وأنقرة شمالا، وبحر العرب جنوبا. ولما أخفقت إسرائيل فى تحقيق أى من هذه الأهداف، بل لجأت مرات للولايات المتحدة لكى تحمى سماءها بعدما أخفقت كل منظومات دفاعها الجوى، فإن الواقع أقرب ما يكون إلى تراجع إمكانيات إسرائيل عن تحقيق الهيمنة على الفرات وما بعده، بل عن تحقيق عنصر الأمان الداخلى، ناهيك عن تماسك المجتمع ذاته الذى ارتفعت تعداد الهجرة منه إلى حوالى 80 ألفا خلال الربع الثانى من هذا العام، وقصد العديد منهم قبرص واليونان. كل هذا لا يتناسب مع حجم خطاب نتنياهو يوم 19 يونيو الذى قال فيه «بعد قيام إسرائيل واجهنا عالما عربيا موحدا وفرقناه تدريجيا». البعض كان يظن أنه يوجه كلامه للعرب، ولكنه كان يوجه كلامه للولايات المتحدة ليحفزها على استهداف إيران. وكما يروج نتنياهو لأساطير من وحى خياله، فإنه ينسب لبلاده فضل تقسيم العالم العربى، وكأن الحرب الباردة لم تمر بالمنطقة العربية، ولا كان للولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى دور، ولم تجر أى مواجهة داخلية بين المؤمنين والرافضين لمشروع القومية العربية! وإنما فقط إسرائيل هى التى فعلت كل ذلك من مكتب رئيس وزرائها!نعود للفكرة الرئيسية، إن قوة الدفع المبنية على العقيدة، والتى سارت عبر التاريخ على مدار قرون، والتى تريد تحقيق فكرة معينة وتتبنى سياسات متنوعة لإنجازها لن تتغير بالأمر الواقع، وإنما العكس هو الذى سيحدث. وسيستمر المؤمنون بهذه العقيدة يتوارثونها حتى يقيموا دولتهم الكبرى أو يعجزون دونها. فإسرائيل العقائدية لم تنشأ عام 1948. ونلاحظ هنا أن المسلمين كانوا يقرأون آيات سورة الإسراء التى تتحدث عن علو بنى إسرائيل فى الأرض طيلة 1367 سنة، ثم ينظرون حولهم فلا يجدون دولة ولا علو. لكن عندما شاء الله تحولت الدولة إلى أمر واقع، وهى اللحظة التى تقاطع فيها الدين مع التاريخ، فشكل الأمر الواقع. البعض يرى أن هذا التقاطع دائم، وكأن نفس الآيات التى تتحدث عن نشأة الدولة لم تتحدث أيضا عن زوالها. وقد نعود لتحليل هذا الموضوع فى مقالا آخر، ولكن ما يعنينا هنا هو السياسة التى تتبناها إيران تجاه إسرائيل، فبالرغم من بعدها الدينى، ووجه التشابه بين كلمة «الوعد» فى اسم عملية إيران ضد إسرائيل مع كلمة «الوعد» المذكور فى سورة الإسراء إلا أن إيران لم تشر لهذه الآيات فى تفسير اسم العملية.
مقالات اليوم حسن المستكاوي باريس سان جيرمان آلة مذهلة وممتعة محمد بصل ما يستحقه أبى أحمد من رئيس وزراء مصر إبراهيم العريس «مثقفو الهزيمة الثالثة» (٢ من ٣) جدلية الانتصار والانكسار فى جلسة لا تنسى محمد رءوف حامد الوجدان الدولى الجديد.. تضاريسه ومآلاته العالم يفكر إيطاليا.. عودة الفاشية بوجه جديد
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك