x قد يعجبك أيضا

«مثقفو الهزيمة الثالثة» (٢ من ٣) جدلية الانتصار والانكسار فى جلسة لا تنسى

الخميس 10 يوليه 2025 - 8:45 م

حدث ذلك فى لحظة بعيدة جدا فى الزمن. اللحظة تبدو اليوم، وكأنها تنتمى إلى أزمنة ما قبل التاريخ مع أنها لا تبعد عنا أكثر من نحو ثلاثين سنة. لكنها كانت لا تزال تبدو لحظة «سعيدة» من زمن أقل سعادة بكثير.
يومها كان محمود درويش غاضبا من منظمة التحرير. فى لغة تلك المرحلة كنا نقول «كان حردانا» وذلك أثر الإعلان عن توقيع اتفاقيات أوسلو حيث كانت ثمة فى أسلوب تلك المفاوضات، أمور لم ترضه. فى ذلك الحين راحت قيادة المنظمة وعلى رأسها ياسر عرفات تسعى لاسترضائه إلى درجة أن صديقا من المقربين جدا من الرئيس الراحل عرفات اتصل بنا طالبا منا أن نمون على شاعرنا الكبير فنهدئه بعض الشىء. والحقيقة أن درويش استجاب وإن بصورة جزئية لمساعينا مع إصراره، كالعادة على أنه محق فى غضبه. ثم حدث أن اجتمعنا فى بيت صديق فلسطينى مقرب لنا فى باريس والمناسبة: توقيع الاتفاقيات فى حديقة البيت الأبيض كما سيبث من على الشاشة. وكان الراحلان محمود درويش وجوزف سماحة وكاتب هذه السطور من بين الحاضرين الذين كانوا يراقبون درويش من طرف خفى سابرين ردود فعله.
باختصار مر كل شىء كما هو متوقع وتم التوقيع كما أتذكر، وحتى اللحظة التى اختتم فيها الحفل من حول الرئيس كلنتون ووقف الحضور وفى مقدمتهم كلنتون نفسه ورابين وبيريز من الجانب الإسرائيلى وعرفات من الجانب الفلسطينى. وهنا نظرنا إلى محمود وفى نظراتنا سؤال غامض: مارأيك الآن؟ ابتسم شاعرنا بمرارة، وقال بكل هدوء، ولكن بقدر كبير من الحزن: أفلم تلحظوا شيئا؟ أجبنا بصوت واحد تقريبا: لاحظنا أشياء لكننا نريد أن نعرف ما لاحظته أنت.. اتسعت ابتسامته الحزينة وقال: ألم تلحظوا مقدار سعادة «الختيار» واتساع ابتسامته وانفراج إصبعيه بعلامة النصر، مقارنة بالحزن المتمكن من وجهى الإسرائيليين الممتلئين بانكسار مذهل؟
هنا، دون أن ينتظر تعليقنا تابع درويش: الحقيقة أن الحكاية كلها هنا: «ها هو صديقنا يعلن انتصارا فيما هو ينهى القضية الفلسطينية إلى الأبد، أو يؤجل فلسطين إلى أجل غير مسمى على الأقل. أما الآخران، فها هما يبديان الحزن والانكسار فيما هما يعيشان فى اللحظة نفسها بالذات، ذروة أكبر انتصار حققته إسرائيل حتى اليوم فى تاريخها». قال له واحد من الحاضرين أن عرفات ما كان فى مقدوره لحظتها أن يحصل على أكثر مما حصل عليه.
صحيح أن محمود وافق على ذلك ولكن مضيفا: لست أنكر ذلك. ولكن كان عليه إعلان الحقيقة ومن على ذلك المنبر بالذات. كان عليه أن يقول أنه يوقع لأنه هزم فى المعركة لا لأنه «منتصر فى الحرب» كما تدل علامة الانتصار فى إصبعيه. لو فعل لكنت أكملت طريقى معه إلى الأبد. لو فعل لعاشت فلسطين ومن على بضعة كيلومتراتها المربعة التى حصل عليها وما كان فى إمكانه فى هذه اللحظة أن يحصل على غيرها، حياة جديدة. ففى النهاية لا ينتصر إلا من يدرك أنه قد هزم ويعترف بهزيمته بكل صدق وجرأة.. أما فى حالتنا فإننا سنبقى دائما مهزومين طالما أننا لا ندرك أبدا أننا مهزومون….».
يومها توقف الحديث هنا.. ولكن بقى فى البال قول أستذكره وأحد منا فيما بعد، سمعه مرة من صديق فرنسى كبير للعرب قال فيه إن واحدا من الفوارق الأساسية بين عقول المثقفين العرب أو أكثرهم على الأقل والعقل الإسرائيلى، هو أن الإسرائيليين يعتبرون أنفسهم مهزومين إن قلت نسبة انتصاراتهم عن ٧٠ أو ٨٠ بالمائة، أما التفكير الثقافى العربى فيعتبر أن نسبة من البقاء لا تزيد عن ١٠ أو ٢٠ بالمائة تعتبر انتصارا، خاصة إن تواكب مع بقاء المنظومة الحاكمة وإفلاتها من كل عقاب.. وهى الجدلية التى لا شك أن محمود درويش كان يفكر فيها خلال الأيام التى تلت تلك الحفلة الصاخبة فى حدائق البيت الأبيض.
لكن مياها كثيرة جرت تحت الجسور وفى الأنهار، منذ ذلك اليوم، ورحل عن عالمنا من رحل وبقى من بقى.. وها نحن اليوم وإذ تبدو تلك النقاشات والأحداث المهمومة حقا بشئون العرب وشجونهم، منسية فى وقت تحولت فيه الثقافة العربية إلى شعارات واهية يكاد العقل يغيب عنها غيابا تاما، بعدما كان فى مقدوره أن يتفاعل بصورة أكثر عقلانية وإيجابية مع الأحداث المتتالية التى تمر بها الأمة كلها وقد تشتتت بشكل مرعب تشتتا تكفى لمعرفة بؤسه، جولة بين مئات آلاف التعليقات التى تطالع المرء فى كل ثانية ولحظة فى أماكن وعلى شاشات صغيرة، ما كان فى إمكان مبدع كمحمود درويش أن يتصورها تحل محل كل فكر فى حياتنا المزرية، وتنسى كل تلك الجهود التى بذلها العقل العربى - فى نهضتين على الأقل، وفى أزمنة مباركة، كنا نُسمى الهزيمة – وما أكثر الهزائم – هزيمة، ونُسمى الانتصار – إن كان هناك انتصار – انتصارًا. لقد خلف مفكرو تينك النهضتين إرثا كبيرا والسؤال الآن، ما هو يا ترى الإرث الفكرى الذى سوف تخلفه «انتصارات» اليوم المعلنة بأكبر قدر من زعيق فاجر؟
الحقيقة أننا نطرح على أنفسنا هنا سؤالا شائكا، لكى لا نقول عنه إنه سؤال مصيري. ونعرف أننا لا نملك الجواب. بل حتى لا ندرى أن كان ثمة من يملك الجواب المنطقى، أو الأجوبة المنطقية، عليه. ولكن ربما يمكن لبقية ما تبقى من عقلانية عربية أن تحاول ذلك. فالزمن الحقيقى ليس زمن الانفجارات العاطفية والتمسك بأوهن الشعارات وأبعدها عن الواقع. ولعلنا اكتفينا من كل ذلك الكلام الذى لا يسمن ولا يغنى من جوع، ولا سيما منه ذاك الذى ينتشر على الشاشات لمجرد الحكى. المطلوب اليوم شىء آخر تماما. وربما يكون هذا الشىء هو البدء مجددا من... الصفر. ولكن ما هو هذا «الصفر» الذى ندعو إليه؟ حسنا ربما يكون فى التفريق أخيرا بين شيئين اثنين غالبا ما اعتبرهما التفكير العربى واحدا: الماضى والتاريخ. للانطلاق من وضع كل منهما فى مكانه الصحيح بالنسبة إلى حياتنا العربية وبالنسبة إلى مستقبلنا العربى، بكل ما يحمله هذا القول من مفارقة. وذلكم ما سنحاول التوقف عنده فى القسم التالى، والأخير على أية حال، من هذه المداخلة.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة