x قد يعجبك أيضا

إيطاليا.. عودة الفاشية بوجه جديد

الخميس 10 يوليه 2025 - 8:50 م

فى السياسة والاجتماع الأوروبيين، شكل الصعود السريع وغير المألوف لليمين المتطرف ظاهرة محيرة ومحفوفة بالمخاطر، ففى «القارة العجوز» تبوأت هذه القوى زمام السلطة منفردة كما فى إيطاليا وهنغاريا، أو تقاسمتها من ضمن تحالف عريض مثلما جرى فى السويد، أو فازت بأكثرية أصوات الناخبين فى فرنسا وهولندا. ويأتى ذلك تحت ظلال متغيرين كبيرين هما بلوغ الهجرة معدلات غير مسبوقة وارتفاع نسبة العازفين عن التصويت فى الانتخابات.
يحار المرء فى تفسير تلك الظاهرة، لكن لا ضير من اللجوء إلى قاعدة تاريخية تتمثل فى حقيقة أن إيطاليا هى البلد الذى تتجلى فيه أطوار متباينة من السياسة قبل أن تجد طريقها إلى بقية أوروبا، بدءا من الفاشية فى مطلع القرن العشرين، مرورا بصعود ظاهرة رجال الأعمال المنخرطين فى السياسة فى نهاية القرن العشرين، وانتهاء بنمو الشعبوية فى العقد الأول من هذا القرن. فى هذا السياق تمثل الحكومة برئاسة جورجيا ميلونى - بامتياز - عودة الفاشية بوجه جديد، وهى بكل المقاييس نسخة ملطفة من الفاشية أفلحت فى جعل سياسات اليمين المتطرف قابلة للتسويق اجتماعيا؛ وهى عملية كانت تجرى فى إيطاليا منذ عقود على قدم وساق.
فى تصريحات نارية تدفقت فى خطاباتها الجماهيرية، جعلت جورجيا ميلونى الهجرة حجر الزاوية فى سياساتها الداخلية، بدءا من تصريحها الشهير باحتضان إيطاليا نحو 800 ألف مهاجر خلال عامين وزيارتها فى العام 2024 مركز تشينجين فى ألبانيا، وهو مجمع أقيم خصيصا لحجز المهاجرين الذين تنتشلهم السفن الإيطالية من عرض البحر؛ حيث يجرى فيه فحص لوثائقهم على نحو يشبه اللجوء المؤقت.
وواقع الأمر أن تاريخ إيطاليا يتضمن كلمة السر المنشودة لفك شيفرة عودة الحياة إلى اليمين، فى بلد تخنقه سياسات الهجرة وغياب العدالة بين الشمال والجنوب وشيخوخة السكان. والأهم أنه لا ينفك عن توليد حياة سياسية تطرح دائما زعماء متشددين من طراز بيرلسكونى وميلونى وغيرهما.
إن الهشاشة التى تميز مستويات مختلفة، سواء أكانت جيوبوليتيكية أم تاريخية أم حضارية، تغدو بتشابكاتها عاملا مهما فى مقاربة ظاهرة اليمين المتشدد فى إيطاليا. فللبلد موقع متميز فى جنوب أوروبا وفى قلب البحر الأبيض المتوسط، يحاذى جزؤه الأوروبى جبال الألب بحدود مع فرنسا وسويسرا والنمسا وسلوفينيا. كما أنه شبه جزيرة مكشوفة من الشرق بالبحر الأدرياتيكى والبحر الأيونى من الجنوب وبالبحرين التيرانى والإيغورى. وتتموضع غرب إيطاليا جزيرتان معزولتان ضخمتان هما صقلية وسردينيا، وتتناثر حولها بضع جزر صغيرة. فى العام 2023 وصل عدد السكان إلى حوالى 59 مليونا، تتجاوز أعمار ربعهم 65 عاما، وهى بذلك البلد الأوروبى الأكثر شيخوخة.
فضلا عن ذلك، فإن الكيان السياسى الإيطالى نفسه حديث للغاية. فإيطاليا جرى توحيدها فى العام 1859 بعد دمج سبع دويلات متناحرة من طرف «جوزيبى غاريبالدى»، وأعلن رسميا عن قيام نظامها الملكى فى 17 مارس من العام 1861. وقتها كانت هذه الدولة الوليدة تتسم بالهشاشة. وبقيت عناصر الضعف فى صلب الدولة الناشئة. ففى النظام الملكى الدستورى الجديد كان حق المشاركة السياسية حكرا على الذكور من ذوى المؤهلات الجامعية والأثرياء الذين يسددون ضرائب عالية، فى حين ظلت السلطة محتكرة بيد الصفوة من دون أية تعديلات سياسية جوهرية، وفجرت تلك الترتيبات شرارة اضطرابات دامت عقدا كاملا ما بين 1889 و1898.
وعادت الأزمات العاصفة لتضرب الكيان الإيطالى الهش بين الأعوام 1919 – 1922؛ إذ مع حراك طبقة العمال نحو جعل البلد يتبنى نظاما اشتراكيا صرفا، قام بنيتو موسولينى وأتباعه مدعومين من قطاعات التجار والطبقة الإدارية العليا للدولة بسحق انتفاضات العمال، وفى أكتوبر 1922 زحف موسولينى وميليشيا القمصان السود إلى روما، حيث عهد إليه الملك إيمانويل الثالث بتولى السلطة. وأسس موسولينى منذ العام 1925 ديكتاتورية جثمت على صدر الإيطاليين وتغلغلت حتى فى دقائق حياتهم الشخصية.
• • •
فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، جرى استفتاء يونيو 1946 الذى اصطلح على تسميته بالقوس الدستورى؛ حيث اختار 54% من المقترعين تأسيس نظام جمهورى على أنقاض الملكية، وشهدت تلك الفترة تطورا اقتصاديا يعود الفضل فيه إلى الورشة العملاقة للدعم الأوروبى فى العام 1951 ثم مساعدات الصندوق الأوروبى فى العام 1957. وكان أبرز مخرجات القوس الدستورى استبعاد الحركة الفاشية (حركة الاشتراكية الوطنية) والحزب الشيوعى الإيطالى عن الحياة السياسية. ومع ذلك كان النصف الثانى من القرن العشرين حقبة اضطرابات عصفت بالبلاد على شكل موجات عنف وهجمات واختطاف قامت بها ميليشيات من أقصى اليسار مثل «الألوية الحمراء» وجماعات تنتمى إلى أقصى اليمين.
وفى وقت بدا فيه أن العفن السياسى قد استشرى فى الحياة السياسية، بدأت فى العام 1992 ما أطلق عليها عملية «الأيادى النظيفة» التى كشفت فسادا شاملا للطبقة السياسية. وفى أجواء اليأس وضياع اليقين طفا على السطح مشهد السياسى الملياردير سيلفيو برلسكونى زعيم حزب «إيطاليا القوية»، الذى سيتبوأ بين الأعوام 1994 - 2011 رئاسة الحكومة لأربع دورات. نجح برلسكونى عبر نسج تحالف مع «رابطة الشمال» بقاعدته الجماهيرية الواسعة، وتأجيج دعوات الانقسام بين الشمال والجنوب فى البقاء فى سدة الحكم. ويؤرخ صعود نجم برلسكونى إلى بداية ظاهرة الشعبوية الأوروبية، وازدهار حركات يمينية فى إيطاليا. وفى خضم هذه التحولات السريعة، بات تسلق جورجيا ميلونى هرم السلطة مسألة وقت.
ولئن صدق القول بأن الفاشية هى الابنة الشرعية للرأسمالية، فإن حزب ميلونى المترعرع فى الشمال، قلب الاقتصاد الإيطالى، كان دليلا دامغا على صحة تلك الفرضية. فالإقليم الشمالى الأشد التصاقا بالقارة الأوروبية، تركزت فى غربه غالبية الصناعات الثقيلة ومراكز الشركات العالمية التى توزعت على مدن ميلانو وتورينو وجنوا. وهذه صورة مغايرة للإقليم الجنوبى الذى يسمى «ميزوجيورنو» الذى يعتمد اقتصاده بشكل مطلق على الفلاحة والسياحة ويعانى نصف سكانه من البطالة، وتحديدا من فئتى الشباب والنساء. وما نثر كثيرا من الملح على جراح الجنوب كان سطوة المافيا (الجريمة المنظمة) التى يبتلع زعماؤها أموال المساعدات مع إحجام الحكومة عن الإشراف على المشروعات ومتابعتها. وذلك ما أسهم فى تغول مافيات مثل كامورا وكوزا نوسترا ودرانغيتا بحيث باتت سطوتها تغطى الإقليم الشمالى.
• • •
المفارقة أن إيطاليا حتى زمن قريب كانت بلدا يصدر المهاجرين للعالم، وبخاصة صوب العالم الجديد، فالهجرة عنصر راسخ فى الحياة الإيطالية، حتى أن الأغنية الأكثر شهرة فى الثقافة الإيطالية التى صدح بها المطرب الشعبى ريناتو كاروسونى فى العام 1956 وعنوانها «تود لو كنت أمريكيا أو تريد أن تكون أمريكيا» كان موضوعها عن الهجرة والحلم بالسفر إلى أمريكا. ولكن الآية انقلبت بعد انهيار جدار برلين، فأصبحت إيطاليا قبلة للمهاجرين من شرق أوروبا وإفريقيا بدلا من أن تكون مصدرا للمهاجرين.
بيد أن إيطاليا التى كانت فى ما مضى تفتح موانئها الكبرى لاحتضان المهاجرين وشيدت مراكز كبرى لاستقبالهم وتقديم الإغاثة الأولية لأفواجهم الكبيرة، سرعان ما طأطأت رأسها لاحتجاجات بعض دول الاتحاد الأوروبى مثل جمهورية التشيك وبولندا وهنغاريا وسلوفينيا وقطعت ميلونى وعدا بأنها وحزبها سيعتمدون قواعد متشددة لإعادة تمركز طالبى اللجوء.
ولكن ما كانت تفعله ميلونى على المستوى المحلى هو تبنى سياسات اقتصادية يمينية محافظة تستعيد أشباح الفاشية القديمة، فصبت سياسات التقشف على طبقة العمال، وسددت لطمة قوية للطبقات الدنيا بإلغائها الدعم الحكومى للمواطنين فى يناير 2024 والذى كان يستفيد منه حوالى ثلاثة ملايين شخص. كما نفذت ميلونى برنامج خصخصة كبيرا من خلال بيع حصة الحكومة فى عدد من الشركات الإيطالية مثل عملاق الطاقة «إينى»، وشركة البريد الإيطالى، وشركة السكك الحديدية الإيطالية.
مع ذلك عجزت سياسات جورجيا ميلونى عن تحسين النمو، فعادت إلى الاتحاد الأوروبى الذى كانت تهاجمه فى كل شاردة وواردة لتستجدى منه مساعدات هائلة. وللحق فإن الاتحاد الأوروبى يقوم بدور مركزى فى تعزيز النمو الاقتصادى الإيطالى، فإيطاليا هى المستفيد الأكبر من خطة الاتحاد الأوروبى فى دعم اقتصادها عبر حزمة مالية قدرت بـ 190 مليار يورو. وميلونى التى تستمد قوتها من إشاعة مشاعر الذعر من التدهور الحضارى لأوروبا وقدوم الغرباء المهاجرين إليها، حرصت، بعد جلوس دونالد ترامب فى المكتب البيضاوى، على أن تروج بضاعتها القديمة فى أمريكا، مستندة إلى صداقتها مع قطب الصناعة إيلون ماسك، أحد المقربين من الرئيس الأمريكى.

منصور مبارك المطيرى

مؤسسة الفكر العربى
النص الأصلى:

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة