يقول الدكتور أحمد كمال أبو المجد: الشباب هو أن تفرح للأشياء الصغيرة، وهذه مقولة صحيحة تمامًا فالأشياء الصغيرة تُصحصح القلب وتنشّط الروح وتحافظ على الدهشة، وكل صغير جميل. اكتشفتُ أيضًا وظيفة أخرى للأشياء الصغيرة: أنها تجدّد خلايا الذاكرة، ففي تلافيف العقل تركن بعض الذكريات شديدة البساطة لسنا نعرف من أين أتاها تأثيرها الممتّد بالضبط. وبينما تمّر على الذاكرة أحداث كبيرة بالمقاييس الطبيعية فإنها تأخذ وقتها وتذهب، ويبقى الصغير ويدوم. في ذاكرتي أفيش لفيلم "معبودة الجماهير" على حائط المكتبة التي كانت تواجه بيت الأسرة في حي المنيل ولا أجد سببًا واحدًا لكونه مازال معي حتى الآن. فهذا الفيلم لا توجد له أي خصوصية لدي، وأنا التي يمكنني ادعاء أنني تربية أفيشات أروع من ذلك بكثير حين كانت دور سينما جرين والروضة والجزيرة لها فِعل السحر في أهالي المنيل الكرام زمن الستينيات. وربما كان التفسير الوحيد هو أن أفيش "معبودة الجماهير" لمس في داخلي شيئًا ما. ومن رحلتي الأخيرة إلى بغداد تسلَلَت إلى المكان إياه في تلافيف الذاكرة واقعة بسيطة جدًا، أظن أنها ستبقى، وأعرف سبب بقائها، وأحب لها أن تبقى. • • •انتهت الحلقة التلڤزيونية التي حللتُ ضيفةً عليها في أحد برامج قناة الإخبارية العراقية وتم بثّها من فندق بابيلون الشهير. عقارب الساعة تتحرك في اتجاه التاسعة مساءً، والسائق ينتظرني في الخارج لألحق بزملائي في العشاء الذي يقيمه رجل الأعمال المصري الدكتور خالد قنديل بمجمّع ألف ليلة وليلة في حيّ الأعظمية. قنديل الذي سبق لي أن التقيته عدة مرات في القاهرة يعتبر من أهم أدوات قوة مصر الناعمة في العراق، وهو يعرف العراق كما يعرف كف يده، وأكاد أقول إن شهرته في بغداد أكثر من شهرته في القاهرة. مبتسم دائمًا، ودود دائمًا، حلو اللسان دائمًا، وسخي طول الوقت. لم يكتف بدعوتنا مساء يوم وصولنا إلى بغداد على عشاء فاخر في مطعم قصر عالية الأثري البديع، لكنه أصّر أيضًا على دعوتنا للعشاء في ثالث يوم لنا في بلاد الرافدين. نسج بلطفه شبكة إنسانية قوية ومتشعبة وعابرة للتيارات السياسية العراقية من أقصاها إلى أقصاها رغم صعوبة الحفاظ على التوازن. ومنحه هذا كله نفوذًا كبيرًا، ووضعَ في يده عصا تشبه عصا الساحر، حتى أن شخصًا عراقيًا له مكانته الرفيعة في مجتمعه ردّ على زميل كان معنا في الوفد المصري طلب منه إنجاز خدمة صعبة بقوله: تكونش فاكرني خالد قنديل؟، ضحكت في سرّي.• • •الطريق طويل، وتعب اليوم حلّ تدريجيًا ثم أخذ يتمدّد. بدأت أدردش مع مرتضى السائق، وكم من مرتضى صادفته في العراق، فمرتضى هو لقب أمير المؤمنين علّي بن أبي طالب. هذه المعلومة كنت أعرفها من زمن، أما الألقاب الأخرى وأحبّها إلى قلبه أبو تراب أو صاحب الأرض- فتعرّفت عليها في زيارتي للعراق. الظلام المحيط بنا لا يسمح برؤية جيدة لمعالم الطريق رغم أضواء المصابيح التي تتلألأ حول بعض المطاعم والمؤسسات الرسمية. خلص الكلام وبدأ النوم يداعب جفوني ومازال أمامنا حوالي نصف ساعة لنصل إلى مقصدنا. اتخذتُ قرارًا مفاجئًا بأن أعتذر لمضيفنا الكريم عن عدم حضور العشاء، وطلبتُ من مرتضى أن يعود بي إلى الفندق، فردّ: إن شاء الله ست. بالمناسبة أحببتُ مناداة العراقيين للمرأة بالست ففيه احترام وتقدير، وهو يمثّل جزءًا من ظاهرة عامة في علاقة المجتمع بالمرأة، فلقد لاحظتُ مثلًا في الفندقين اللذين نزلت بهما أنه لا توجد أي امرأة في خدمة الغرف، وإن كانت هناك عدة نساء في الاستقبال والإدارة.• • •مع أن مرتضى استجاب لطلبي دون تعليق إلا أنني بيني وبين نفسي شعرتُ أنه ارتاح له، وقدَرتُ أنه لابد يشعر بالإرهاق الشديد في وقت تبدو فيه بغداد مثل خلية النحل وتتوافد عليها الوفود من كل صوب. طلبتُ منه أن نمّر سريعًا على أي سوبر ماركت لأشتري باكو بسكوت أتعشّى به مع كوب من التشاي العراقي بالعنبر، فرد: بيصير ست. رنّت الكلمة مجددًا في أذني. توقّف عند أول سوبر ماركت قابله وفتح لي باب السيارة بأدب ثم سبقني بخطواته الواسعة إلى الداخل. لماذا العجلة؟ هل تأخرنا إلى هذا الحد؟ الحمد لله أنني أنقذتُ هذا المسكين من ليلة ليلاء كانت في انتظاره. في لمح البصر سحب مرتضى علبة بسكوت من الحجم العائلي كانت على الرّف، ثم فتح ثلاجة المحل وترك بابها مواربًا ليسألني: برتقال أو ليمون؟ وبدون تفكير رددتُ عليه:لالا الليمون المحفوظ مش حلو. فحمل لترًا من عصير البرتقال وعلبة البسكوت السوبر سايز وذهب إلى الخزنة. في تلك اللحظة فقط بدأتُ أستوعب ما يحدث من حولي. لحقتُ بمرتضى أسأله عن الحساب فعلّق بكلمة واحدة لكنها قاطعة: أبد، أي أبدًا. حلوة كلمة أبد هذه أينعم، لكنها أحرجتني. وانطلق ليفتح لي باب السيارة من جديد. أدهشتني يا مرتضى.• • •صدفة بحتة هي التي جمعَتني بالسائق الطيب، ومع ذلك تصرّف مرتضى على هذا النحو الجميل. والآن وبعد مرور نحو ثلاثة أسابيع على هذه الواقعة البسيطة -وحين أنظر للأمر من بعيد- أجد وكأنني اعتذرتُ عن كرم المصري الذي يعتبر نفسه أبًا لكل المصريين في العراق، وحظيتُ بكرم العراقي الذي اعتبرني ضيفته لوجودي على أرضه. كم أنك شهم وتلقائي ومدهش يا مرتضى، فلا شيء كان يحملك على أن تدعوني للعشاء، فأنا حتى لم أتفرّس في ملامحك ولا تبادلتُ معك إلا قليل الكلام. لكنك فعَلتَ ما تصورتَ أنه واجب عليك، وصنعتَ في ذاكرتي ودون أن تدري أفيشًا أقوى من أفيش "معبودة الجماهير". لن أنس هذا الموقف غير المتوقع في السوبر ماركت، ومع أنه دام لثوان لا أكثر إلا أنني أثق أن ذكراه ستراودني كلما أتى أحد على الحديث عن العراق وعن أهل العراق، كما أثق في أنه سينضّم بتفاصيله إلى ذكرياتي الصغيرة المحبوبة.You sent
مقالات اليوم عماد الدين حسين الشوربجى.. وكشف حساب الصحافة القومية محمد أبو الغار قراءة داروين بالعربية 1860 - 1950.. كتاب مثير محمد الهوارى البنك المركزي وضرورة تطوير منظومة إدارة الاحتياطي النقدي محمد زهران هل نثق في التنبؤ بحالة الطقس؟ معتمر أمين إلى أين؟.. مستقبل الشرق الأوسط معلق ليلى إبراهيم شلبي التأمين الصحي في كندا ناجح إبراهيم حينما يبكى العيد محمود قاسم بنت 17 بسمة عبد العزيز المَصعَد من الصحافة الإسرائيلية إيران والخامنئي صعّدا اللهجة.. لكنهما حرصا على عدم عرقلة المسار الدبلوماسي قضايا تكنولوجية الحرب في عصر الذكاء الاصطناعي
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك