أحيا استدعاء الرئيس دونالد ترامب لقوات الحرس الوطنى، ونشرها فى مناطق متعددة من العاصمة واشنطن تحت غطاء مكافحة الجريمة، مخاوف الكثير من الأمريكيين من نية ترامب الانقلاب على الدستور والتحول لديكتاتور ومحاولة البقاء فى الحكم لفترة ثالثة. وتعهد ترامب فى حملته بالظهور كمرشح يهتم بتطبيق القانون والحفاظ على الأمن، ويرى أنه يجب تعيين المزيد من رجال الشرطة بدلا من خفض ميزانيات أجهزة الشرطة.
إلا أن مخاوف الأمريكيين، وعلى رأسهم 690 ألفا يسكنون بواشنطن، لا تتعلق بمكافحة الجريمة، بل بالرسائل التى يبعث بها ترامب، وبما يمكن أن يبعث بها مستقبلا.
سبق ومزح ترامب حول إمكانية البقاء فى الحكم بعد انتهاء مدة رئاسته الثانية والأخيرة دستوريا فى 20 يناير 2029، فى حين يصر عدد من أنصاره، وعلى رأسهم ستيف بانون، على أن ترامب سيترشح مجددا فى 2028، وأن هناك جهودا تُبذل لدراسة السبل الممكنة لتحقيق ذلك، ومنها دراسة إعادة تعريف الحد الأقصى للولايات الرئاسية. لذا يخشى كثيرون أن يكون إرسال مئات من الجنود لشوارع واشنطن ما هو إلا بروفة وتطبيع لما هو آت.
• • •
لم يتخيل الآباء المؤسسون للولايات المتحدة أن يواجه أفراد القوات المسلحة الأمريكية معضلة الاختيار بين حماية الدستور وبين طاعة أوامر رئيس الجمهورية بصفته قائدا أعلى للقوات المسلحة.
يركز القسم العسكرى الأمريكى على الولاء والدفاع عن الدستور، وفى الوقت ذاته طاعة أوامر رئيس الولايات المتحدة، ولا يعد انضمام أى شخص للجيش الأمريكى مكتملا وقانونيا إلا بعد أداء القسم.
وعلى مدار التاريخ الممتد لما يقرب من 250 عاما، لم يضطر الجيش الأمريكى إلى الاختيار بين الأمرين، إلا أن الأحداث السياسية الأخيرة المتسارعة والمستمرة منذ ظهور دونالد ترامب على ساحة السياسة الأمريكية مطيحا بقواعد ديمقراطية راسخة ومؤسسا لتيار شعبوى يلعب على عواطف الناخبين والناخبات، ومخاوفهم، دفعت البعض للقلق مرة أخرى مما قد يقدم عليه ترامب حال عدم رحيله بعد انتهاء فترة حكمه الثانية.
خلال فترة حكمه الأولى الممتدة من 20 يناير 2017 إلى 20 يناير 2021، حاول ترامب، وفشل، فى أن يصبح ديكتاتورا. وتعلم ترامب بعض الدروس المهمة، وعلى رأسها ضرورة الشروع فى تطهير شامل للبيروقراطية الفيدرالية، وأن يستخدم وزارة العدل كسلاح لملاحقة خصومه السياسيين، صراحة، وتكديس الوكالات الحكومية فى جميع المجالات بالساسة المعينين الذين تم فحصهم مسبقا والتأكد من أنهم موالون أيديولوجيون لترامب.
• • •
مع تصاعد الاحتجاجات ضد مداهمات مكافحة الهجرة فى محيط مدينة لوس أنجلوس بجنوب ولاية كاليفورنيا فى يونيو الماضى، أصدر ترامب توجيها بنشر ألفى جندى من الحرس الوطنى فى المدينة لقمع هذه الاحتجاجات.
يندرج هذا التوجيه الذى أصدره ترامب تحت مظلة قانون فيدرالى نادرا ما يُستخدم، ويسمح هذا القانون للرئيس باستدعاء قوات الحرس الوطنى فى ظل ظروف معينة واستثنائية.
وفى الحالة الراهنة، تذرع ترامب ببند محدد بعنوان «يو إس سى 12406 10» من قانون القوات المسلحة، والذى يذكر 3 ظروف يمكن للرئيس بموجبها إضفاء الطابع الفيدرالى على قوات الحرس الوطنى. وبموجب هذا القانون فيمكن استدعاء هذه القوات ضمن الحالات التالية: أولا، إذا كانت الولايات المتحدة تعرضت للغزو أو معرضة لخطر الغزو من قبل دولة أجنبية؛ ثانيا، إذا كان هناك تمرد أو خطر تمرد ضد الحكومة؛ وثالثا، إذا كان الرئيس غير قادر مع القوات النظامية على تنفيذ قوانين الولايات المتحدة. قال ترامب فى مذكرته إن الاحتجاجات فى لوس أنجلوس تعد أحد أشكال «التمرد ضد سلطة حكومة الولايات المتحدة».
وتجدر الإشارة إلى أن الحرس الوطنى يعمل ككيان هجين يخدم مصالح الولاية والمصالح الفيدرالية فى الوقت ذاته، وعادة ما يتم تنشيط قوة الحرس الوطنى فى الولاية بناء على طلب حاكم الولاية. إلا أن الوضع يختلف فيما يتعلق بالعاصمة الفيدرالية واشنطن، إذ منح الدستور الرئيس والكونجرس صلاحيات واسعة فى المدينة.
• • •
جاءت رغبة ترامب فى استدعاء الجيش لمواجهة ما يراه ارتفاعا فى نسب الجرائم بواشنطن متسقة مع إعجابه بالعسكرية الأمريكية، فى الوقت ذاته حصل ترامب على أكثر من 61% من أصوات العسكريين فى الانتخابات الأخيرة. ويسمح الدستور للعسكريين بالتصويت فى الانتخابات بخلاف ما هو معمول به فى الكثير من النظم الانتخابية حول العالم. وفقا لمكتب الإحصاء القومى، فقد خدم حوالى 6٪ من الأمريكيين فى الجيش، وهى نسبة أقل بكثير مما كانت عليه قبل بضعة عقود.
قبل ذلك صمم ترامب على إحياء ذكرى تأسيس الجيش الأمريكى بعرض عسكرى نادر فى قلب واشنطن. وقال ترامب والكثير من أنصاره، إن دولا ديمقراطية مثل فرنسا وبريطانيا تنظم عروضا عسكرية لإحياء ذكرى ثوراتها أو انتصاراتها العسكرية الضخمة. واستغل ترامب يوم 14 يونيو الماضى، والذى احتفل فيه الأمريكيون بيوم العلم حيث تم اعتماد العلم الوطنى خلال الثورة الأمريكية، وصادف نفس اليوم الذكرى السنوية الـ 250 لإنشاء الجيش الأمريكى، وهو اليوم الذى يصادف كذلك عيد ميلاد ترامب الـ 79.
• • •
طبقا للدستور - وتحديدا - التعديل رقم (22)، يُمنع الرؤساء الأمريكيون ممن خدموا فترتين فى البيت الأبيض، من الترشح لفترة حكم ثالثة، وهو ما احترمه كل الرؤساء منذ إقرار التعديل فى بداية خمسينيات القرن الماضى. وجاء نص الدستور متضمنا لغة واضحة وصريحة تمنع الترشح لفترة حكم ثالثة تحت أى ظروف. ويقول نص الدستور «لا يجوز انتخاب أى شخص لمنصب الرئيس لأكثر من دورتين، كما لا يجوز لأى شخص تقلد منصب الرئيس أو قام بمهام الرئيس لأكثر من سنتين من أصل مدة ولاية انتخب لها شخص آخر رئيسا، أن ينتخب لمنصب الرئيس لأكثر من دورة واحدة».
فى النهاية، لم يتصور أحد هذه الدراما المرتبطة بشخص دونالد ترامب منذ ظهوره على الساحة السياسة الأمريكية عام 2015، وفوزه بفترتين رئاسيتين غير متتاليتين. إلا أن الأكثر إثارة هو أن ترامب لم ينته بعد، ولا يزال له ما يقرب من ثلاث سنوات ونصف السنة فى البيت الأبيض. ويترك ترامب الأمريكيين، وبقية العالم، يتساءلون ويخمنون فيما سيأتى به ترامب من مفاجآت خلال الأسابيع والأشهر والسنوات المقبلة بصورة قد لا يتخيلها أكثر كُتاب الخيال الأدبى جموحا.